الأخبار
جمال حسين
مصر الجديدة - الهائم في البرية.. عبد المنعم رمضان
في زمن تتسيد فيه الرواية الإبداع ويدخلها كل من يمتلك موهبة حقيقية أو شيئا من الموهبة أو عابر طريق- ويقال عن الشعرإنه تراجع وراء الرواية- يتغافل الجميع عن حقيقة أن مايحدث للرواية الآن ليس لأنها الأفضل من الشعر لكن لأن العصر صار شديد التعقيدات وفاق الواقع فيه الخيال ومن ثم أراد المبدعون أن يقيموا عالما آخر بالتاكيد هو أفضل رغم إنه من خيال. لقد حدثت هذه الطفرة في الرواية في العالم كله وليس في مصر فقط وتسيدت السوق روايات الرعب وروايات الخيال قبل غيرها من الروايات. ولا يعني هذا أبدا أن الشعر يفقد قيمته ولا معناه ولا القصة القصيرة أيضا. وفي أوائل السبعينيات من القرن الماضي حين وفدت إلي القاهرة كان سكني الأول مع الشاعر المرحوم أحمد الحوتي الذي كان يعمل مديرا لقصر ثقافة الريحاني وكنت أنا الإخصائي الثقافي لهذا القصر. وغير السكن كان هناك ندوة الأحد للشعراء الشباب الذين شكلوا جماعة السبعينيات وكانوا يرون فيمن سبقوهم عيبا هو الشفاهية فتراث الشعر هو تراث الإلقاء بينما الشعر سر من أسرار الروح وليس مهما أن ينفرد الشاعر بجمهوره ليتلو عليهم شعره لكن يمكن أن ينفرد القارئ بالديوان ويتأمله علي مهل. كانوا عددا كبيرا منهم عبد المنعم رمضان وحسن طلب ورفعت سلام ومحمد سليمان وأحمد طه وجمال القصاص وشعبان يوسف وأمجد ريان وغيرهم. صاروا يطبعون دواوينهم علي نفقتهم وأصدروا مجلة بعنوان »الكتابة السوداء »‬لم تتجاوز ثلاثة أعداد ودخلوا معارك كبري واستمرت معارك هذا الجيل ومن بعده من المجددين في مجلة »‬الكتابة الأخري»‬ التي كان يصدرها الشاعر هشام قشطة. وتمر الأيام ويتسيد هؤلاء الشعراء المشهد ولاشك أن هناك الآن عشرات الدراسات عن أعمالهم واستمروا رغم تراجع الزمن بالشعر وتقدم الرواية.
في الأسبوع الماضي كانت ليلة رائعة مع ديوان جديد لعبد المنعم رمضان شارك فيها كل من الأساتذة شاكر عبد الحميد وجابرعصفور وأدونيس الذي ظهر لأيام قليلة في القاهرة. كانت الندوة في دار العين التي صدر الديوان عنها. ذهبت أنا الذي تقريبا لم تفته كتابات هذا الجيل بحكم القرب والزمن وفي ذهني العنوان »‬ الهائم في البريَّة »‬ أنظر إلي عناوين دواوين عبد المنعم رمضان السابقة »‬ الحلم فوق الوقت ظل المسافة »‬ »‬ قبل الماء فوق الحافة »‬ »‬ بعيدا عن الكائنات »‬ »‬ لماذا أيها الماضي تنام في حديقتي »‬ وأنظر إلي عنوان هذا الديوان الذي يبدو النشيد الأخير ليس للشاعر لكن لوجود أحبه الشاعر أو إذا شئت قل وطن. لكني أعرف من ثقافة عبد المنعم رمضان ومن كتاباته إنه حتي لو أثارته الحياة اليومية وأحداثها فهي تعلو لتصبح سمة من سمات الكون اغترابا ونفيا وبحثا عن يوتوبيا لا تتحقق في الدنيا. ومن ثم محاولة ربط أشعاره بمثيراتها الأرضية نوعا من السياسة المبتذلة يعلو عليها أفق الكاتب الكبير العائش وحده طوال حياته مع قناعاته بأن الشعر كالموسيقي لابد أن يحملك إلي فضاء خال إلا من تجليات الروح. كانت الندوة مشتعلة بحديث النقاد وكنت أنا أجلس بعيدا عن الزحام والحر الناتج عن ضيق المكان. وماكادت الندوة تنتهي حتي عدت إلي البيت مسرعا لأنفرد بالديوان.
»‬في ذلك المساء قابلت كافكا.. كان يبحث عن العتمة
وكنت أبحث عن الخروج من العتمة»
من قصيدة »‬كأنه أنا »‬ ومن قصيدة »‬كأنه الطريق :
»‬الليل معي في الغرفة.. والأشباح تدق عليَّ الباب.. ووحدي أبحث عن عائلة.
وتطول القصيدة المليئة بالأخيلة والصور السحرية حتي ينهيها أيضا بما تقدم. وتأتي قصيدة »‬تحذير من الكابوس» قصيرة وتستحق أن أعيدها كاملة :
لاتقف هنا.. أنت تشبه حبة قمح.. تنام بلاغيمة.. وبلا سنبلة.. الجنود الذين وراء حدود المعسكر.. سوف يرون انقسامك نصفين.. سوف يرون علي كتفيك.. هواءً ثقيلا.. وسوف يرون علي شفتيك.. دموعا.. وأغنية مسدلة.. لاتقف هنا.
وتأتي بعد ذلك قصيدتان عن الكابوس وتجلياته وفي الأخيرة منها يقول :
إنني أبحث عن قط.. وعصفور وماء.. فإذا جاء المساء.. غير إني صرت أخشي ما أريد.. صرت إقليما بعيدا.. من أقاليم الشتاء.. هذه ليست بلادي.. ليس هذا ما أريد.
وينقسم الديوان إلي عدة فصول أو أجزاء صغيرة آخرها قصيدة »‬نشيد وطني» المهداة إلي توفيق صايغ الشاعر الفلسطيني الكبير يقول في بدايتها :
»‬كيف أرفع رأسي.. وأخفض ساقي وساريتي.. وأسير بغير يدين.. وأصبح في وطن ليس يشبه أمي.
وفي آخرها يقول: ومازال آخر حلم يراودني.. أن أكون المسافر وحدي.. إلي وطن.. كان يشبه أمي.
كان جميلا أن تكون آخرقصيدة مهداة لتوفيق صايغ وأن يكون حاضرا أدونيس ابن جيله فكأننا في محراب التجديد منذ نهاية الخمسينيات في الشعر واللغة والنقد بالحضور والغياب، إضافة إلي شاكر عبد الحميد وجابر عصفور وعدد كبير من الشعراء الشباب من الجنسين يسبحون في دنيا التجديد في الشعر يضيق المقال عن ذكر أسمائهم.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف