الوطن
د. محمود خليل
أحزان «زينب» (3)
تحول مشهد ترميم وإقامة مسجد السيدة زينب فى عصر خسرو باشا إلى «ساحة استغلال»، وتولى كبر هذا الأمر «مهتار باشا»، أو «مختار باشا» التركى، فقد تحول إلى سمسار يمسك بكشوف أرباب الحرف، ويدعوهم طائفة طائفة للعمل بالمسجد، وبمرور الوقت شق الأمر على الناس، وتحول إلى مسلسل عذاب يومى يغرقون فيه فى الغبار ونقل التراب من مكان إلى مكان، ولم يتوقف «مختار باشا» عند هذا الحد، بل فعّل آلة الجباية، ففرض على كل طائفة تشارك فى الترميم دفع مبلغ مالى «بقشيش» لأصحاب الطبول والزمور الذين يعزفون أثناء العمل. واللطيف أن «التركى» اللئيم لم يكن يمنح هذه الفرق الموسيقية إلا النزر اليسير، ويحتفظ بالباقى لنفسه. ولم يكن يسمح للطائفة بدفع ما تقدر عليه، بل كان الباشا يلزمها بدفع مبلغ يحدده لها، فيأتى على الطائفة كما يقول الجبرتى (150 قرشاً ونحو ذلك)، وقبل الذهاب إلى موقع العمل بالمسجد كان اللئيم يذهب إلى حيث تعيش الطائفة الحرفية، فيطالبهم بـ«الفرضة» فيجمعونها من بعضهم البعض ويدفعونها.

وبمرور الوقت، بالغ «مختار باشا» فى إعنات وإرهاق طوائف الحرف المختلفة، وكأنه يدفعهم دفعاً إلى حمل الهدايا والعطايا له، وكانوا يفعلون، والويل كل الويل لمن يتردد فى ذلك. يقول «الجبرتى»: «وإذا حضرت طائفة ولم تقدم بين يديها هدية أو جعالة طوّلوا عليهم المدة وأتعبوهم ونهروهم واستحثوهم فى الشغل». إنها العادة الموروثة لدى الرؤساء عندما يغضبون على مرؤوسيهم فيرهقونهم بالعمل، ويبالغون فى إعناتهم. ولم يكن ينجو من «حفلات التعذيب» التى استنّها «مختار باشا» سوى ذوى الحرف المعتبرة من المصريين، كما وقع لتجار الغورية والحريرية. المال كان يجرى بين أيدى هؤلاء التجار مثّل بالنسبة لهم طوق نجاة من الإذلال على يد الباشا التركى، فكانوا يدفعون ويجزلون العطاء، وكان الباشا يقابل ذلك بنصب الخيام لهم، ليجلسوا فى الظل بعيداً عن العمل ويستقدم لهم الطبّالون والزمّارون ليعزفوا بين أيديهم. ومن الملفت ما يشير إليه «الجبرتى» من أن «اليهود» هم الطائفة الوحيدة التى أفلتت من عذابات الباشا، بسبب ما دفعوه إليه من هدايا وأموال!.

عشرة أشياء من الرذالة اجتمعن على الناس -كما يقول «الجبرتى»- خلال إقامة وترميم مسجد السيدة زينب عام 1217 هـ، وهى: «السخرة والعونة وأجرة الفعلة والذل ومهنة العمل وتقطيع الثياب ودفع الدراهم وشماتة الأعداء وتعطيل معاشهم، وعاشرها أجرة الحمام». هكذا تجددت الأحزان الزينبية، وتحول أمر بناء مسجدها العامر إلى مأساة عاشها المصريون، بسبب سلوك حكامهم من الأتراك والمماليك، فتحولت الفرحة إلى سخرة، وقهر على العمل، أو استجلاب الفعلة ودفع الأجرة لهم، ومن يضطر منهم إلى العمل لعدم وجود المال بين يديه تتقطع ثيابه، ويضطر إلى ترك عمله الأصلى، ليشارك فى بناء المسجد، ولا ينجو فى النهاية من شماتة الشامتين، أو الأجرة التى يدفعها فى الحمام حتى ينظف جسده بعد يوم شاق من العمل فى الغبار وحمل التراب.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف