الأهرام
عبد الرحمن سعد
وصية نبوية للتعامل مع الدنيا
"ما أجمَعَ هذا الحديث لمعاني الخير، وأشرفه".. وصف رائع أطلقه التابعي الجليل ابن دقيق العيد، على حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الذي رواه ابن عمر، رضي الله عنهما، وقَالَ فيه: "أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِمَنْكِبِي، فقال: "كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ".(رواه البخاري).
إنها وصية نبوية كريمة، مكونة من ثماني كلمات فقط، لكنها توضح قيمة الدنيا، وترسي قاعدة نفسية مريحة في التعامل معها؛ لذا كان ابن عمر، رضي الله عنهما، يقول: "إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ". (البخاري).

جاء في شرح الأربعين حديثًا النووية لابن دقيق العيد أن النبي، صلى الله عليه وسلم، أمسك بعضُدي ابن عمر، ليسترعي انتباهه، قائلا له: "كُنْ فِي الدُّنْيَا"؛ أي: مدة إقامتك بها، "كَأَنَّكَ غَرِيبٌ"؛ بألا تركن إليها، قال ابن هبيرة: لأن الغريب إذا دخل بلدة لم ينافس أهلها في مجالسهم، ولا يكون متدابرًا معهم".

وجاء أيضا: "عابر السبيل همُّه قطع المسافة لمقصده، بأثقال خفيفة، وكما لا يحتاج إلى أكثرَ ممَّا يبلِّغه غاية سفره، فكذلك المؤمن لا يحتاج في الدنيا إلى أكثرَ مما يبلغه المحَلَّ".

والأمر هكذا، احتفى السلف الصالح بهذا الحديث النبوي العظيم، فقال ابن حجر الهيتمي: "انظر إلى ألفاظه، ما أحسنها وأشرفها وأعظمها بركة، وأجمعها لخصال الخير، والحث على الأعمال الصالحة.. أيام الصحة، والحياة".

وقال المناوي: "هذا الحديث أصل عظيم في قِصر الأمل، وألا يتخذ الدنيا وطنًا وسكنًا، بل يكون فيها على جَناح سفر مهيأً للرحيل".

وقال الجرداني: "فيه الحث على التفرغ من هموم الدنيا، والاشتغال بأمور الآخرة".

ومن جهته، علق الداعية محمد راتب النابلسي على الحديث، فقال: "هناك عبارة في بعض بلاد النفط إذا وُضعت على الجواز انخلع قلب المقيم، ألا وهي: مغادرة بلا عودة"، مشيرا إلى أن الغريب قد يستوطن، أو يسكن في بيت، أما عابر السبيل فليس له مأوى، ولا يقعد لحظة، والمعنى: أن تجعل الدار الآخرة وطنك الأساسي.

لذا كان ابن عمر، رضي الله عنهما، يحض على أن يجعل المرء الموت بين عينيه، إذ لا يدري متى يصل إلى وطنه: صباحًا أو مساءً، وبالتالي: يغتنم أيام صحته، لأنه لا يدري متى ينزل به مرض يحول بينه وبين الطاعة، ولأنه إذا مرض، كُتب له ما كان يعمل صحيحًا.

والآن، بعد هذا التطواف السريع مع الحديث، وشروحاته: كيف ستنظر إلى الدنيا؟ وهل يمكن أن تعتبر نفسك فيها كأنك "غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ"، كما أوصى بذلك، رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟

إنك إن فعلت ذلك وجدتَ راحة نفسية عظيمة، ونجوتَ من همومها، ومتاعبها.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف