الأهرام
جابر عصفور
رؤى نقدية - عن المجددين فى الإسلام
المؤكد أن ما كتبه الأستاذ أمين الخولى عن المجددين فى الإسلام، إنما هو أمر بالغ الأهمية، وواجب أن نُذكِّر به – نحن المستنيرين من المسلمين- أنفسنا فى هذا الزمان الذى تتكالب فيه على الإسلام قوة رجعية، تدَّعى احتكار علوم الإسلام وتزعُم أنها نائبة عن الله فى أرضه، تحتكر المعرفة بدينه وترى أنها الأقدر من غيرها على فهم الدين وتأويله، ومهاجمة الابتداعات المحدثة التى ترى أن من واجبها القضاء عليها بوصفها أعشابا ضارة تتناقض ومهمتها الأصلية، وهى إحياء السنة وإماتة البدعة، ولذلك لم تتردد هذه الجماعات - خصوصًا فى عصور التدهور- من تضخيم الحديث المنسوب إلى النبى صلى الله عليه وسلم، والذى يقول: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ». وتسرف فى تأويل هذا الحديث بما يؤكد مفهومها عن الزمن المتراجع، الذى تنظر أواخره إلى أوائله دائمًا بحيث تكون النقطة الأقدم هى الإطار المرجعى الذى يتحدد على أساس منه قيمة كل شيء لاحق، وقد وصفت هذه النظرة بأنها نظرة ارتجاعية أو رجعية تعود بنا إلى الوراء دائمًا ولا ترى فيما هو قادم من الزمان إلا ما هو شر أو انحراف أو فساد، وإلا ما هو انحدار بالدين والدنيا على السواء. وقد أسرف الحنابلة فى تأويل هذا الحديث على نحو ينفى تمامًا مفهوم التطور فى الحياة الدنيا، وفى الواقع الذى نعيشه.

........................................

ولقد سبق لى أن ناقشت المعنى السلبى لهذا الحديث فى كتابى «نقد ثقافة التخلف» الصادر فى عام (2008)، وتوقفتُ طويلًا عند من أشاعه من الحنابلة ، أمثال ابن رجب الحنبلى البغدادى (المتوفى سنة 795 هـ) فى كتابه «فضل عِلم السلف على عِلم الخَلف»، وقد سبق أن قلتُ فى بحث سابق أن شيوع هذه الأفكار والتأويلات كان سببًا من أسباب انتشار التقليد بمعناه السلبى والقياس دائمًا فى كل حركة من حركات القرون الإسلامية الآتى على اللاحق، وذلك بحيث يكون كل قرن لاحق هو صورة من كل قرن سابق، قياسًا على القرن الأول الذى هو أفضل القرون وأجدرها بالتقليد والإحياء المستمر. وقد أوضحتُ فى بحوث أخرى أن العقلانيين الإسلاميين لم يتركوا هذا المفهوم الرجعى للتاريخ، وإنما ناوشوه بالمساءلة الخلاقة، وذلك مثلما فعل محمد الشوكانى اليمنى (المتوفى فى سنة 1250هـ) فى كتابه «البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع»، حيث يتصدى فى عقلانية رائعة لأصحاب هذا التأويل، مؤكدًا أن ثقافة اللاحق هى أفضل دائمًا من ثقافة السابق؛ ذلك لأنها تستفيد من تطور الزمن وتراكم المعرفة، وعلى ذلك يكون علم اللاحقين أفضل من علم السابقين. والمؤكد أن هذه النتيجة العامة لا تنطبق على علوم الدين فحسب، وإنما تنطبق على علوم الدنيا كلها بكل ما تنطوى عليه من دينى أو مدنى أو علمى خالص، فإن تراكم المعارف وتتابع خطى الخبرات المدنية والإضافات الكمية المتلاحقة لمكتشفات الأمم، تزيد اللاحق وعيًا وعلمًا لم يكن متاحًا للسابق عليه فى أغلب المجالات. وظنى أن الذين أشاعوا هذا الحديث وتأويله السلبى - خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ- إنما أرادوا أن يوقفوا به امتداد التأثير الإيجابى للحديث المقابل الذى يقول: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا».

ويعنى ذلك إن مُعرقلى ما يدعو إليه الحديث النبوى «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»، هم الذين أرادوا أن يوقفوا خطى التجديد والتطور، سواء فى فهم الدين أو مسار المجتمع أو على مستوى تقدم العلوم على السواء. وبالفعل قد نجح هؤلاء فى تقييد خطى الحضارة العربية الإسلامية وإيقافها حيث انتهت، وذلك بكل ما اقترن بهذا الإيقاف من مطاردة للفلاسفة واضطهاد للعقل والعقلانية وإشاعة تكرار هذه الوصمة البغيضة التى تركوها على جبين التطور التاريخى للإسلام، وأعنى بها عادة حرق الكتب غير المَرْضِى عنها من السلفيين، خصوصًا الكتب التى تنحو منحى عقلانيا أو فلسفيا، وكان ذلك فى موازاة دعوة الغزالى فى كتابه المعروف «تهافت الفلاسفة»، وهى الدعوة التى تجلَّت عمليًّا فى مبدأ «من تمنطق تزندق» وتعزير (أو تعذيب) العقلانيين من المتفلسفين، وحرق كُتُبهم فى ميادين العواصم الإسلامية، بل إن كتاب الغزالى نفسه «إحياء علوم الدين» لم يَنْجُ من هذا الحرق، فقد حُرِق بدوره فى إحدى عواصم المغرب العربى، تطبيقًا لهذه التعاليم السلفية التى تمثلت فى التأويل المغلوط للحديث: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ».

ومعنى هذا أن القوة الأولى الكارهة لمبدأ التجديد الدينى، هى القوة السلفية التى تزعم أنها تريد أن تعود بالدين إلى عصر نقائه الأول، مُطيحة بكل ما جاء بعد ذلك من تطور أو تقدم، فقاومتْ الجديد وحاربتْ الاجتهاد، ظنًّا منها أن هذا الاجتهاد يؤدى إلى إعمال العقل، وإعمال العقل عندها مرفوض ومناقض للدين بمعناه الأول. وعلى هذا الأساس حَمل لنا التاريخ الإسلامى مواقف مخزية من اضطهاد العقلانيين المسلمين وحَرْق كُتبهم فى أفعال مأساوية ابتدأت من مطاردة المعتزلة فى عصر المتوكل (205-247هـ) إلى آخر القرون التى ازدهرت فيها الحضارة الإسلامية العربية.

ولم يكن أهل السلف أو النقل هم وَحدهم الذين حاربوا مبدأ التجديد فى الإسلام، فقد كان معهم كل علماء سلاطين الاستبداد وحُكّامه على السواء. وأذكر أن أمين الخولى يذكر فى كتابه أنه بعد وفاة عمر بن عبد العزيز جاء خليفة أموى آخر، فحضر إليه حوالى أربعين عالمًا من علماء الإسلام، يبيحون له من أشكال الفساد الاجتماعى والأخلاقى، بوصفه سلطانًا عن المسلمين لا يحاسب مثلهم على ما تقترفه يداه. والقائمة الخاصة بعلماء سلاطين الجور من المستبدين العتاه، هى أطول من أن تحتملها صفحات هذا المقال، وهى موجودة فى كُتُب التاريخ، ويمكن أن يراجعها من يريد ليتحقق من أن وراء كل سلطان جائر فقهاء سُلطة كانوا يزيدونه وعيًا بضرورة ظلمه وقسوته على العباد وعدم العدل بينهم، وهو أمر أشار إليه كل من ربط بين فقهاء السلاطين المستبدين وفهم الدين، ولذلك قالوا: «إن الدين بالمُلك يقوَى، والمُلك بالدين يبقى»، ولذلك يجعل أمين الخولى للتجديد الدينى وظيفة اجتماعية وسياسية، مؤكدًا أن التجديد الدينى لم يكن يهدف قديمًا إلا إلى حماية المجتمع، والانتباه إلى العوامل السيئة المفسدة لأمره. ومن المؤكد فيما يقول، مفسرًا الحديث النبوي: «إن ذلك التجديد فى رؤوس القرون هو العمل الثورى الكبير الذى تحتاجه الأمة إذا ما طال عليها العهد، وقست القلوب لما أبعد. ويؤكد هذا ما سبقت الإشارة إليه، من جعلهم التجديد مرتبطًا بكبريات الأحداث الضارة، التى يتعرض لها المجتمع، بفعل آفات من التطور الاجتماعى، والتغير الحيوى، إثر خلل اقتصادى، أو انتكاس اجتماعى لسبب ما، على نحو ما أشاروا إليه من أمهات الأحداث، التى توجب وجود مُجدِّدٍ يكون نفعه عامًّا ومُطلقًا فى الأرض».

صحيح أن أمين الخولى لا يتحدث إلا عن حاكم واحد يراه جامعًا بين السلطة الدينية والمدنية هو عمر بن عبد العزيز، الذى أوقف حدًّا من حدود الله خاصًّا بالسرقة، عندما تكاثر الظلم من حوله، كما ظل إلى أواخر حياته لا يؤمن بالرق ولا يقبل العبودية إلا لله وليس للبشر. فإن كل من ذكرهم بعد عمر بن عبد العزيز، إنما هم علماء دين يتميزون جميعًا بأنهم دعاة عدل وإعمال فكر، ولذلك ذَكر حرص الشافعى على حرية الطَّلبة العقلية، وشعوره باستحالة القهر العقلى ما دام العقل يؤدى عمله. وكان يقول لتلاميذه: «إذا ذكرتُ لكم ما لم تقبله عقولكم فلا تقبلوا، فإن العقل مضطر إلى قبول الحق». وفى قوله «إن العقل مضطر» الدلالة الكافية على شعوره بضرورة هذه الحرية العقلية. وكان الشافعى يقول لصاحبه البويطى «اصبر للغرباء وغيرهم من التلاميذ» وينشد قوله:

أُهِينُ لَهُمْ نَفْسِى وَأُكْرِمُهَا بِهِمْ وَلا تُكْرَمُ النَّفْسُ الَّتِى لا تُهِينُهَا

ويعلق الخولى على هذا البيت قائلًا: «وأما إهانة النفس للطلاب، فأمانة كبرى تحتاج إليها الحياة العلمية ألزم احتياج، ومن لنا اليوم بالأساتذة الذين يُجهدون ويألمون ويَشقون على أنفسهم، أو يُهينوها، كما يقول الشافعى، فى سبيل البحث، وإفادة الطلاب، ولا يشغلون أنفسهم بأعراض الدنيا، ويشغب بعضهم على بعض من أجلها، ويسخطون على الدنيا ونظامها من أجل هذه الأعراض. وأما أنه يهين نفسه لهم ليكرمهم بِهم فإحساس دقيق، يجد أصدق وأعمق ما يجد أستاذ تسعده أستاذيته، بلذتها المعنوية، وتتمتع روحه بإخلاص أبنائه الذين يشعرون بأبوته المعنوية، ويشعر هو فى متعة، لا نظير لها، ببنوتهم الروحية فيكونون – كما أسميتهم- أبناء الرؤوس، حين يكون الأبناء الطبيعيون أبناء الظهور».

ولا ينسى الخولى من منظوره العقلاني- أن يشيد بالنظرات الاجتماعية للشافعى، ولذلك يؤكد أن «من زعم أنه يرى الجن، أبطلنا شهادته». وعندما يأتى إلى الأشعرى، فإنه يتوقف عند تحوله عن الاعتزال، ويرى فى خروجه على المعتزلة وقبولهم لهذا الخروج، تأكيدًا لظاهرة «التسامح الدينى»، الرحب الأفق، المسالم، المتواد، البار، الذى يمثله قول الأشعرى نفسه حين يعلن تحوله عن مبدأ المعتزلة، وذلك فى أفعال تؤكد أن خير ما قَدَّم المجددون للحياة الدينية، مع مبدأ التسامح، هو حرية الاعتقاد، وحق الفهم الصحيح للدين على نحو ما رأينا مثاله فى عمل المُجدد الأول عمر بن عبد العزيز الذى يعترف لمخالفيه السياسيين الخارجين على أسرته ودولتهم بِحُرية العقيدة والرأى، ويحترم ذلك لهم، ويدعوهم إلى مناقشته، فإن كان الحق بيده، دخل مخالفوه فيما دخل فيه الناس، وإن كان فى يد مخالفيه نظر هو فى أمر نفسه. وبجانب هذا التسامح المحترم للعقيدة، إقرار حق الفهم الصحيح لأسرار الدين، وإن كانت الأقوال المشتهرة للقائلين على غير هذا. ويتجلى ذلك فى نُفوره من الرق، وقوله لمن يتخير له الجميلات من الجوارى الرقيقات: إنه يحرضه على الزنى... فذلك الشعور نحو الرق، إنما هو إدراك لأسرار تستوقف نظر الناظر، وتؤذن بحق المفكر فى فهم موقف القرآن الكريم نفسه من الاسترقاق. وهو أمر يحرر العقيدة الإسلامية تحريرًا يحميها من مناوأة الواقع أو مخالفته، ويزيد من تمكن إيمانها من العلم المُدرِك لطبائع الكون. ومن أهم ما يؤكده المجددون فى الإسلام، هو فهم الدين نفسه على أنه إصلاح للحياة، وليس مجرد طقوس وأشكال، وذلك كالذى نسمعه مجلجلًا فى فهم عمر بن عبد العزيز، حين طلبوا إليه أن يأمر للبيت بكسوة، كما يفعل من كان قبله، فيكتب إليهم: « إنى رأيت أن أجعل ذلك فى أكباد جائعة، فإنه أولى بذلك من البيت». ويضيف الخولى إلى أن ما قدَّمه المجددون للحياة العامة فى الإسلام، هو تأكيدهم المعنى الخُلُقى المرتبط بالشعور بالوحدة الاجتماعية التى تجعل مَنْ قتل نفسًا كأنما قَتَل الناس جميعًا، ومَنْ أحياها كأنَّما أحيا الناس جميعًا كما تقول الآية الكريمة.

هذا الشعور الاجتماعى يؤكد مسؤولية من عَلِم عن من لم يعلم، ووجوب أن يكون العلماء من القوة المقاومة للطغيان، المشجعة على مقاومته، والبذل فى سبيل ذلك والاستبسال فى المقاومة. ويُرجع الخولى الأهمية الكبرى لهذه المعانى الخُلُقية الجميلة إلى ما هو مقرر فى الدراسة الاجتماعية من اعتماد السُّلطة فى كل صورة من صورها على تأييد من يستطيعون التأثير الدينى والروحى على جمهرة المحكومين، وهو الأصل الذى يدوِّن التاريخ الإنسانى من أجله ما يدون من صراع مرير على الحرية، والتهالك والتكالب من الحاكمين - باختلاف ألسنتهم وألوانهم وأديانهم - على تأييد سُلطتهم ودعمها بمعانٍ من الحق الإلهى، والتأييد الدينى وأشباه ذلك. ويمضى الخولى قائلًا: «ولعل من انتهت إليه الإنسانية فى تقدمها من فصل الدين عن الدولة، إنما سببه الحيلولة بين الحكام وتأييد سلطانهم برجال الدين وذوى التأثير الروحى على اختلاف صورهم. وَلَئِن قال قائل: إن الإسلام لا يعترف بالسلطة الدينية فهو مستغنٍ عن هذا الفصل؛ لأنه لم يوجد الوصل، فإنك تقول له: إن هذا الذى ينبغى، وما يجب أن يكون، وما هو فى حقيقة الفكرة كله شيء آخر غير الواقع بالفعل، وما تعانيه الحياة، وأحسب أن الشواهد لا تنتهى قديمًا وحديثًا على وجود هذا الواقع الشاخص بل الصارخ فى حياتنا، من اعتماد السلطان على من يُضفى هو نفسه عليهم ويضفونه على أنفسهم من الصفة الروحية، ليقولوا عنه فى الناس بهذه الصفة ما يشاء هو ويشاء لهم الهوى، ونسيان واجبهم الاجتماعى، وأثرهم العملى فى القدوة، وكذلك رأيناها إذا ما اشتد بأس الظلم، واسودت أرجاؤه، يخرجون على الناس بالبيان والفتوى والداء، يزكون الفاجر، ويحرفون الكلم عن مواضعه فينادون فى الناس بمثل آية»... عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ...». (سورة المائدة /الآية 105) على معنى يبرأ منه السياق، وينكره التناول القرآنى الحكيم، الذى قوامه الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر ولَعْن الذين لا يتناهون عن المنكر. وأهون ما يكون من شر هؤلاء الجناة على الحياة بضعف نفوسهم وأخلاقهم أن يدعو للحاكم ويباركوه ويتدخلون فى شئون من الأمور العامة ليسوا فيها أصحاب فَهم، فضلًا عن أن يكونوا أصحاب رأى وتقدير!! وحياتنا حتى الساعة مختنقة بهذه الانحرافات، وزلل المنتسبين إلى الدين... العاطلين المُضللين».

هذا بعض من البُعد السياسى الاجتماعى الذى فعله المجددون فى الإسلام فى رأى الشيخ أمين الخولى الذى لا يكتفى بذلك فحسب، بل يقدم ما قدمه المجددون للحياة العلمية والعامة على السواء، مؤكدًا بذلك إجلال المجددين للعلم وتقديمه على العبادة كصلاة النافلة، فى حديثه عن الشافعى الذى يؤكد أن العلم وسيلة الدنيا والآخرة على السواء. ويضيف إلى ذلك تصحيح منهج التفكير العلمى، وذلك عن طريق الإيمان المبكر بالتجربة كما حدث مع الشافعى وتقرير أن العقل لا يتعارض مع التجربة فى حالة الشافعى أيضًا. وأهم من ذلك – فيما يؤكد الخولي- ما يقدمه المجددون مما سميناه الخُلُقية العلمية (الأخلاق العلمية) التى لا يتقدم العلم نفسه، ولا يُجدِى على الحياة بدونها. ومن هذه الخلقية العلمية التى قدمها المجددون القدماء لنا إلى اليوم ما هو ألزم ما نحتاج إليه فى هذه الأيام. ويضيف إلى ذلك الخولى ما يسميه بـ (الفدائية العلمية) التى تتمثل فى إنكار الذات والنفور من الأنانية والذاتية، وتقدير متعة العلم فى ذاتها وليس الشهرة المعنوية به ولا الاستفادة المادية. ويتمثل ذلك فى قول الشافعى الذى ينبغى أن يكون شارة مسجلة على دار كل علم وعقيدة مستقرة فى وجدان كل عالِم، وتلك هى قولته: «وددتُ أن الناس انتفعوا بهذا العلم، ولم يُنسب إليَّ منه شيء». ويمضى الخولى قائلًا: « فمن يدرك لذة العلم فى العلم، والمكافأة على العلم فى العلم نفسه، فلن يكون له فى خدمة العلم أثر... وإذا ما صار فى المجتمع من مؤمن بهذه العقيدة - صادقًا- فقد صار هذا المجتمع فى منزلة من الرقى يضمن فيها للعلم أقوى تأييد، ويكفل للعلماء أكرم عيش، على حين يسعفهم فى ذلك ترفهم المقدر للمتعة المعنوية التى لا تتاح لأحد سواهم، والكرامة التى لن يتوافر مثلها لمن عداهم، وهى أثمن متعة للحياة».

ولا يكتفى أمين الخولى بهذا كله، بل يضيف إليه ما يستلزمه الأمر من ما قدمه المجددون للحياة العاطفية والفنية، يستوى فى ذلك إعجاب عمر بن عبد العزيز بسماع الأغانى، وهو الأمر الذى يتكرر عند الشافعى الذى يضيف إلى الغناء الرياضة البدنية وكتابة الشعر. ويضيف إلى ذلك ما قام به الشيخ محمد عبده فى العصر الحديث من تأييد لمصطفى كامل فى السياسة، ومن دعوته إلى تشريعات حديثة، وهو الأمر الذى يدفع الخولى إلى الدعوة إلى وحدة التعليم، ومن ثم الدعوة إلى توحيد ثقافة الأمة ومن ثم التعليم الواحد المتحد الذى لا يتمزق بين ثنائيات مدنية وأزهرية أو ثنائيات موازية من مصرية وأجنبية تتشتت معها العقول الواعدة لأبناء الأمة، وتتضارب توجهاتهم ورؤاهم للعالم. ويختتم أمين الخولى ذلك كله بضرورة الفصل بين السلطة الدينية والسلطة المدنية، ولكن بما يؤدى إلى شيوع العدل فى المجتمع، وذلك بما يقرن العدل بالحرية التى تتزايد بشعور الحاكم بالمسئولية التى توجب عليه أن يؤدى كل واحد من أبناء الأمة حقه دون أن يكتب إليه فيها أو يطلبه منها. و»أن يذكر هذا الحاكم أن ما تقلده من شئون الناس سيُسأل فيه، ولا مفر عن الصغير والكبير، والفقير والمريض، والمظلوم والغريب، و..، ولابد أن تثبت له حجة، يوم الحساب حينن يسأل عن كل أولئك». ولا شك إن إعادة إعمال العقل وتحريره وتقدير ما له من مكانة ومن سلطة، هو نقطة البداية التى لا يمكن أن توقف انطلاق المجتمع، وهو الأمر الذى يعنى تأكيد ثقافة الحرية والعدالة الاجتماعية فى المجتمع وتحويل الإيمان الدينى من إيمان عاجز لا يعتمد إلا على التقليد والاجترار إلى إيمان فعال لا يتوقف عن مساءلة النفس والكون على السواء لكى تتطور الحياة الإسلامية بشعوبها، نافضة عنها غبار التخلف وجمود الجهالة كى تستبدل بالذى هو أدنى الذى هو خير، فتعمل على إحلال التجديد محل التقليد ووضع العقل الحر موضع الاتباع السلبى واستبدال توثب الحياة فى عفوية تجددها وتطورها بجمود الحياة وتصلب معتقداتها. وعندما تتحقق دعوة التجديد، وتنتشر فى المجتمع يتحقق معها شمول التجديد فى كل جوانب المجتمع والدولة وتتضاعف طرائق الابتكار، ويتقدم العلم العربى ليكمل ما قطع بعد أن توقف العلم والفكر العربيين مع حبس ابن رشد واضطهاده. وهو الأمر الذى كان يعنى حبس الفكر العربى وسجنه بما يجعله خارج تغير الزمان والمكان، فتأخرنا نحن المسلمين وتقدم أعداؤنا؛ لأنهم استكملوا ما أوقفناه بإيدينا وما حجرنا عليه من اجتهادات المجددين مِنّا، وهذا هو المغزى الأصيل من كتاب أمين الخولى الذى لا يحدثنا عن المجددين فى الإسلام فحسب، وإنما يحدثنا عن مبدأ التجديد الخلاق والحيوى اللازم للحياة والأحياء، والنابع من الدين نفسه بما ينفى هذا التناقض المزعوم – والسائد لقرون متطاولة عن الخوف من التجديد واستبدال النظرة المُقلدة بالنظرة المُجددة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف