الوطن
د. محمود خليل
أخلاق الأزمة
حدثان فى التاريخ المصرى تقدم لك تفاصيلهما شرحاً كافياً ووافياً لمعنى ومدلول عبارة «أخلاق الأزمة»، الأول ارتبط بالحملة الفرنسية التى داهمت المصريين عام 1798، والثانى نكسة يونيو 1967. دعنا نبدأ بالحدث الثانى. من عاصر الفترة التى أعقبت نكسة يونيو 1967، أو قرأ عن تفاصيل الحياة الاجتماعية فى فترة السنوات الست الفاصلة بين النكسة وحرب أكتوبر 1973 يستطيع أن يستوعب المقصود بـ«أخلاق الأزمة». وقتها ظهرت أنواع جديدة من الجرائم التى لم يعرفها المجتمع المصرى من قبل، ارتفعت معدلات الطلاق، أصبح الحلم الأكبر الذى يُحرك الشباب هو حلم الهجرة إلى الخارج، بدأت ظاهرة السفر إلى الخليج العربى للعمل تنمو وتترعرع. فى الشارع كان الناس يشتبكون مع بعضهم البعض لأتفه الأسباب، غلب عليهم السفه فى القول والإهمال فى العمل، بالغوا فى جلد ذواتهم وتحقير شأن أنفسهم.

توالت السنون والمصريون غارقون فى هذه الأزمة، تسوء أخلاقهم يوماً بعد يوم، يعانون من بعضهم البعض أكثر مما يعانون من عدوهم الذى قذف بهم فى أتون المحنة، وعندما بلغت الأزمة ذروتها وقف الناس مع أنفسهم لحظة صدق، تواجهوا فيها بصراحة، وأدركوا ألا مخرج من هذه الأزمة إلا بفعل أى شىء. من يقرأ رواية «ثرثرة فوق النيل» يجد عبارة عبقرية جاءت على لسان أنيس زكى: «يا أى شىء، افعل أى شىء، قبل أن يقتلنا اللاشىء». فى هذه اللحظة بدأ المصريون التفكير فى مخرج، أدركوا أنهم مطالبون بفعل أى شىء، قبل أن يقتلهم اللاشىء. هنالك اندفعوا إلى الشوارع مطالبين القيادة بالحرب، ودخلوا حرب أكتوبر المجيدة، وفيها تمكن الجندى المصرى من صنع المعجزة والعبور من «اليأس إلى الرجاء»، كما كان يردد الرئيس «السادات»، رحمه الله.

أما حدث الحملة الفرنسية فتعلم تفاصيله، فقد بدأ بوصول الأسطول الفرنسى إلى شواطئ الإسكندرية، قاوم أهالى المدينة الغزاة وتزعّم محمد كريم حركة المقاومة، لكنهم لم يتمكنوا من صدّهم. بعد أسابيع من نجاح الحملة ووصولها إلى القاهرة تم القبض على محمد كريم، وسيق إلى القاهرة، حيث وقف أمام نابليون، طالبه الأخير بدفع 10 آلاف قطعة ذهبية، تعويضاً للحملة وإلا حُكم عليه بالإعدام، وأمهله 12 ساعة. انطلق محمد كريم يسأل كبار التجار والمشايخ والأعيان مساعدته فى جمع المبلغ، كان يصرخ فيهم، قائلاً: «اشترونى يا مسلمين»، لم يشتره أحد بدينار ولا قطعة من الفضة، فكانت النتيجة إعدامه. وقتها كان كل تاجر أو عين أو شيخ يفكر فى نفسه وفى ما هو آت، يتحسّب للحظة يطالبه فيها نابليون بدفع ثمن حياته، فغلبت الأنانية والأثرة وحب الذات على ما عداها، وأصبح كل مصرى يصيح: «نفسى.. نفسى». ساءت أحوال الناس ووجد اللصوص والأوباش والألاضيش فرصة سانحة للعمل. ظل الوضع على هذا النحو عدة شهور حتى استفاق الناس، وأدركوا أنهم مطالبون بفعل أى شىء يثوبون به إلى أنفسهم، وأجمعوا على أن عدوهم الحقيقى هو نابليون وجنود حملته، فكانت ثورة القاهرة الأولى.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف