مجلة المصور
عبد القادر شهيب
بناء الإنسان وتحدى الفقر
بناء الإنسان المصرى هو هدف نبيل كبير وطمَوح عال، لكنه تواجهه تحديات ضخمة اقتصادية واجتماعية وثقافية، وأيضا سياسية، ناهيك بالطبع عن تلك المحاولات الخارجية الممنهجة التى تستهدف تشويه الهوية الوطنية المصرية.. غير أن أهم هذه التحديات هى التحديات الاقتصادية.. فإن بناء الإنسان المصرى ليس مجرد عملية ثقافية وفكرية أو اجتماعية، وإنما هى عملية أوسع من ذلك بكثير، كما انتهت إليه دراسات مجموعة من الخبراء عكفت منذ ثلاثة أعوام مضت على دراسة مشروع قومى لبناء وتنمية الإنسان المصرى، رغم إدراكهم بأهمية التحديات السياسية والتحديات التعليمية والاجتماعية والثقافية وكذلك البنية المؤسسية.. فإن الاقتصاد كما رأى هؤلاء الخبراء هو ركيزة القوة لأى أمة والذى يعظم من تنافسية العنصر البشرى الذى يمكنه النهوض بالمجتمع وانتشاله من أية عثرات.



فلا وطن قويا بدون مواطن قوى أيضا له انتماء راسخ للأرض وشعور وجدانه ومعنى ونادى بالوطن والأرض، وأول مقومات القوة لدى المواطن هو أن يكون قادرًا على توفير احتياجاته الأساسية أولا من الغذاء وثانيا من الخدمات الضرورية وفى مقدمتها التعليم والعلاج والسكن الآدمى.. وبالتالى فإذا كان بناء الإنسان أطلق عليه هؤلاء الخبراء (المشروع القومى الأهم بامتياز)، فإننا يمكن أن نعتبر أن الارتقاء بمستوى معيشة المواطن المصرى هو الواجب رقم واحد فى عملية وخطة بناء الإنسان المصرى، والتى تستهدف تأهيل وتنمية المواطن من خلال الارتقاء بالخدمات المقدمة له من تعليم وصحة وثقافة ورياضة، مع الاهتمام بتنمية الوعى والإدراك من خلال ترسيخ الهوية المصرية وتأكيد الانتماء الوطنى وتعزيز القيم الإيجابية، قيم المواطنة والمساواة والتسامح واحترام الأخر والعيش المشترك، ولذلك تشمل هذه الخطة محاور أساسية تشمل التعليم والتكنولوجيا والابتكار والصحة والثقافة والرياضة والشباب وأيضا الإعلام.



لذلك من الخطأ أن نتصور أن الاهتمام ببناء الإنسان يعنى أن يقل اهتمامنا بالأرقام بمستوى معيشته، بل ربما كان يعنى العكس، أى زيادة الاهتمام برفع مستوى معيشته، ولعل ذلك ما يمكن أن نفهمه من أحاديث الرئيس السيسى الأخيرة، والتى بشر بها بحدوث تحسن اقتصادى ملموس خلال العامين المقبلين، وذلك استنادا إلى ما تحقق حتى الآن فى مجال إصلاح أوضاع الاقتصاد المصرى، حيث ارتفع معدل النمو الاقتصادى وزادت احتياطيات النقد الأجنبى وتراجع العجز فى الموازنة وموازين التجارة والدفاع، وانخفضت معدلات التضخم والبطالة.



فإن أية خطة لبناء الإنسان سوف تواجه بالتأكيد بهذا التحدى الاقتصادى الأهم والأخطر، خاصة وأننا، طبقا لآخر دراسات جهاز الإحصاء، أكثر من ٢٨ فى المائة من عدد السكان يعيشون تحت خط الفقر، أى لا يستطيعون توفير احتياجاتهم الأساسية من غذاء وكساء وملبس ومواصلات وعلاج وتعليم ومياه نقية وصرف صحى.. ومن بين هؤلاء أكثر من ٧ فى المائة يعيشون تحت خط الفقر المدقع، أى لا يتمكنون من توفير احتياجاتهم الأساسية من الغذاء.. وبالإضافة إلى كل هؤلاء هناك مجموعة من المواطنين تعيش على هامش خط الفقر لا تقل عن خُمس عدد السكان طبقا لتقديرات سابقة لوزارة التخطيط، وهؤلاء يخشون أن يهبطوا بمرور الوقت تحت خط الفقر، خاصة وأنهم لم يشعروا بشكل واضح بذلك التحسن الذى شهدته المؤشرات الاقتصادية، لأنهم مازالوا يعانون مما تعرضوا له من تداعيات عملية الإصلاح الاقتصادى والتى اقترنت بها موجة غلاء أدت إلى تعرض هؤلاء لانخفاض دخولهم الحقيقية، وبالتالى تراجع مستوى استهلاكهم وإنفاقهم.



ومن هنا يعد الواجب الأول لنا فى مشروع بناء الإنسان المصرى هو مواجهة هذا التحدى الاقتصادى الأهم والأخطر من بين مجموعة التحديات الأخرى التى تواجه هذا المشروع، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو ثقافية وفكرية، أو حتى تحديات خارجية تتمثل فى تلك المحاولات الأجنبية التى تستهدف تشويه هويتنا الوطنية.. ولعل هذا ما قصده الرئيس السيسى فى كلمته أمام مجلس النواب بعد أداء القسم لبدء فترة رئاسية ثانية، عندما تحدث تحديدا عن عناصر ثلاثة أساسية لبناء الإنسان ألمصرى، هى الصحة والتعليم والثقافة.. كما أن الدراسات الخاصة بمشروع بناء الإنسان التى بدأت قبل ثلاث سنوات مضت تضع خدمات التعليم والصحة فى مقدمة هذا المشروع، بل تحدد ذلك تفصيلا بالنسبة للتعليم فى التعليم قبل الجماعى والتعليم الفنى والمهنى وألتعليم الأزهرى، والتعليم العالى والمستمر، وأيضا التكنولوجيا والابتكار، وكذلك كل منظومة الصحة والدواء وتمويل الرعاية الصحية، ومقدما الخدمات الصحية، واعتماد ووحدة الخدمات الصحية.. فإذا تم الارتقاء بخدمات التعليم والصحة فإننا بذلك نرفع عن كاهل الفقراء والطبقات الأقل قدرة أعباء كبيرة وضخمة ونسهم بشكل فعال ومباشر فى انتشال مجموعات ممن يعيشون تحت خط الفقر لينعموا بحياة آدمية آمنة.. والدراسات العالمية الخاصة بمواجهة الفقر ومساعدة الفقراء لا تقتصر فقط على توفير فرص العمل لهم وضمان الدخول المناسبة مقابل ما يؤدونه من أعمال، وإنما تشمل أساسا تحسين الخدمات الأساسية، وفى مقدمتها خدمات الصحة والتعليم، فهذا كفيل برفع أعباء ضخمة عنهم.. ولعلنا نعرف كم يتحمل المواطنون فى مصر من أعباء مالية باهظة لتعين أولادهم، رغم أن التعليم مجانى.. وأيضا نعرف أن المواطنين يدفعون الكثير ليحصلوا على قدر من العلاج فى المستشفيات العامة المجانية أيضا.. وهنا يمكننا أن نتبين أهمية خطة تطوير التعليم التى سوف يبدأ تنفيذها العام الدراسى المقبل، وأيضا أهمية مشروع التأمين الصحى الشامل الذى يبدأ تنفيذه فى محافظة بورسعيد بعد بضعة أسابيع قليلة.



غير أننا مع أهمية الارتقاء بخدمات التعليم والصحة نحتاج لمشروع خاص لمواجهة الفقر ضمن محاور المشروع الأكبر الخاص ببناء الإنسان فى مصر وتزداد أهمية هذا المشروع فى ظل الإدراك بأن نسبة من يعيشون تحت خط الفقر فى ازدياد مستمر منذ أكثر من عشرين عاما مضت، رغم كل ما قمنا به خلال هذه السنوات فى استهداف الفقراء ومساعدتهم والأخذ بأيديهم.. فلا يكفى فقط بضعة برامج مهمة تسعى لتوفير مظلة حماية اجتماعية للفئات الأقل قدرة من تداعيات الإصلاح الاقتصادى، أو دور متزايد يقوم به المجتمع المدنى والأهلى لتغيير حياة أهل القرى الأكثر فقرا، أو ما تقوم به جمعيات أهلية بالاشتراك مع الحكومة فى إعادة تأهيل المناطق العشوائية.. كل ذلك مهم وضرورة ونحتاجه بشدة، لكنه لا يكفى لمواجهة ومحاربة ظاهرة الفقر فى البلاد، بما يحقق فى نهاية المطاف تخفيض أعداد من يعيشون تحت خط الفقر بصفة عامة ومن يعيشون تحت خط الفقر المدقع بصفة خاصة، وأيضا حماية المهددين بالهبوط تحت خط الفقر لأنهم يعيشون الآن على هامشه.



وهده الخطة يجب أن يتشارك فى إعدادها خبراء اجتماع مع الخبراء الاقتصاديين، ويتشارك فى تنفيذها الحكومة مع المجتمع المدنى الجاهز والمساعد للقيام بدوره التنموى وليس مع حفنة قليلة فقط من الجمعيات الأهلية.



وإذا كانت الدراسات الخاصة بمشروع بناء الإنسان المصرى، الذى يعد المشروع القومى الأول، حددت نحو عشر سنوات لتنفيذه، فإن خطة محاربة الفقر يجب أن تستغرق ذات الوقت، ويمكن تقسيمها على فترتين، مدة كل منها خمس سنوات.



يبقى القول إن تنفيذ هذا المشروع الطموح لبناء الإنسان المصرى يحتاج احتسابا وطنيا من أجل تنفيذه بنجاح، خاصة وأنه يحتاج لجهود واسعة فى العديد من المجالات، والأهم يحتاج لمن هم قادرون ومؤهلون للقيام بذلك، والأكثر أهمية متحمسون ومقتنعون بضرورة إعادة بناء الإنسان المصرى، وبأن إعداد المواطن وتأهيله علميا وتربويا وصحيا وثقافيا ومجتمعيا إنما هو يمثل الاستثمار الحقيقى فى الحاضر والمستقبل. والإنسان هو هدف أية خطة اقتصادية واجتماعية، والارتقاء به وتوفير جودة الحياة له بعناصرها الأساسية ومن بينها مع الغذاء والكساء وخدمات التعليم والصحة والعلاج والمسكن، القيم الإيجابية التى تعلى مبدأ المواطنة والمساواة والتسامح واحترام الأخر والقبول بقواعد العيش المشترك، وكذلك تعلى قيمة العمل والكفاءة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف