صباح الخير
رشاد كامل
العقاد يرثى كلبه «بيجو»!
اعتاد قراء وعشاق الكاتب الكبير «عباس محمود العقاد» أن يقرأوا له فى كل المجالات من السياسة إلى النقد ومن الشعر إلى نقد الشعر، ومن شئون الحياة العادية إلى بعض جوانب حياته الخاصة والتى نشرها فى كتابه «أنا» و«حياة قلم» و«فى بيتى»!!


لكن المفاجأة التى لم تخطر على بال قرائه عندما ظهرت مجلة «الرسالة» لصاحبها الأديب الكبير «أحمد حسن الزيات» وبها مقالة بديعة يرثى فيها «العقاد» كلبه «بيجو» وكان ذلك فى صيف عام 1938، وكان العقاد يوم وفاة كلبه «بيجو» فى الإسكندرية فى إجازة قصيرة!
كتب العقاد يقول: «صور كثيرة بقيت فى خلدى من الإسكندرية كأنها صفحات مقسمة من معارض الفن والحياة والتاريخ، وستبقى ما قدر لها البقاء وسيكون من أبقاها وأولاها بالبقاء صورة واحدة لمخلوق ضعيف أليف يعرف الوفاء ويحق له الوفاء وهو صديقى «بيجو» الذى فقدناه هناك!!
وإنى لأدعوه «صديقى» ولا أذكره باسم فصيلته التى ألصق بها الناس ما ألصقوا به من مسبة وهوان، فإن الناس قد أثبتوا فى تاريخهم أنهم أجهل المخلوقات بصناعة التبجيل وأجهلها كذلك بصناعة التحقير!! فكم من مبجل فيهم ولاحق له فى أكثر من العصا، وكم من محقر بينهم ولا ظلم فى الدنيا كظلمه بالازدراء والاحتقار!
ويروى «العقاد» اللحظات الأخيرة فى حياة كلبه «بيجو» قائلاً:
«وإنى لفى ظهيرة يوم بين اليقظة والتهويم إذا بهمهمة على باب حجرتى وخدش يكاد لا يبين، ففتحت الباب فرأيت المخلوق المسكين قابعا فى ركنه يرفع إليَّ رأسه بجهد ثقيل وينظر إليَّ نظرة عين حيوانية وإنسانية من معانى الاستعطاف والاستنجاد والاستغفار.
أحس المسكين وطأة الموت فتحامل على نفسه وخطا من حجرته إلى باب حجرتى وجلس هناك يخدش الباب حتى سمعته وفتحت له وهو لا يزيد على النظر والسكوت!
كان اليوم يوم أحد، ولكننا بحثنا عن الطبيب فى كل مظنة لوجوده حتى وجد! وشاءت له مروءته والإنسانية أن يفارق صحبه وآله فى ساعة الرياضة ليعمل ما يستطيع من ترفيه وتخفيف عن مريضه الذى تعلق به! وعطف عليه! لفرط ما أنسه أثناء علاجه من ذكائه وألاعيبه ومداعباته، ولكنه وصل إلى المنزل و«بيجو» يفارق هذه الدنيا التى لم يصحبها أكثر من سنتين!
وأخيرا يقول العقاد عن كلبه: «لم يخلق إنسانا فدنس الإنسانية بالغدر ولكن خلق كلبا فشرف الحيوانية بالوفاء!»
ولم يكتف العقاد بمقاله بل رثا كلبه بقصيدة جاء فيها:
حزنا على «بيجو» تفيض الدموع
حزنا على «بيجو» تثور الضلوع
حزنا عليه جهد ما أستطيع
وأن حزنا بعد ذاك الولوع
والله -يا بيجو- لحزن وجيع!
حزنا عليه كلما لاح لى
بالليل فى ناحية المنزلِ
مسامرى حينا ومستقبلى
وسابقى حينا إلى مدخلى
كأنه يعلم وقت الرجوع!
حزنى عليه كلما عزنى
صدق ذوى الألباب والألسن
وكلما اطمأننت فى مسكنى
مستغنيا أو غانيا بالقنوع!
وكلما ناديته ناسيا
«بيجو»!! ولم أبصر به آتيا
مداعبا مبتهجا.. صاغيا
قد أصبح البيت إذن خاويا
لا من صدى فيه ولا سميع
نسيت؟! لا بل ليتنى قد نسيت
أحسبنى ذكراه ما حييت
لو جاءنى نسيانه ما رضيت!
بيجو معزى إذا ما أسيت
بيجو مناجى الأمين الوديع!
بيجو الذى أسمع قبل الصباح
بيجو الذى أرقب عند الرواح
بيجو الذى يزعجنى بالصياح
لو نبحة منه، وأين النباح؟
أبكيك.. أبكيك وقل الجزاء:
يا واهب الود بمحض السخاء
يكذب من قال طعام وماء
لو صح ما محضت الوفاء
لغائب عنك وطفل رضيع!»
وانتهت القصيدة لكن درس «العقاد» فى الوفاء يبقى! •




تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف