الأهرام
صلاح سالم
تجديد الفكر العربى.. المانيفستو التوفيقى
نعترف بأن كثرا سبقوا الراحل الكبير زكى نجيب محمود على طريق النزعة التوفيقية، غير أن دعوتهم إليها بقيت متناثرة، رهينة تعبير أدبى ما فى رواية كما كان الأمر لدى نجيب محفوظ، أو خبيئة نزعة فنية رومانسية أقرب إلى الحدس الصوفى منها إلى التحليل العقلى كما كان الأمر فى دعوى «التعادلية» لدى الحكيم فى كتابه الموجز تحت العنوان نفسه، أو قرينة معالجة جزئية كما كان الأمر لدى على عبد الرازق فى كتابه الأثير «الإسلام وأصول الحكم».. الخ. بينما تبدت لديه مقصودة لذاتها، استقرت فى مشروع كبير هيمن على نفسه، وامتد فى ثلث عمره، وشغل كل أعماله الأخيرة التى تبدأ بكتاب/ مانيفستو «تجديد الفكر العربى» عام 1970م، وتنتهى تماما بسيرته الذاتية «حصاد السنين» 1993م، وإن كانت قد انتهت موضوعيا بكتاب «عربى بين ثقافتين» 1992م الذى رسم فيه الملامح النهائية لإنسان عربى يجمع بين ثقافة العصر العلمية، والوجدان القومى الخالص، أى بين «الأصالة والمعاصرة». ورغم أن البعض يتصور أن مانيفستو هذه المرحلة يتمثل فى كتاب «الشرق الفنان 1960»، فإننا لا نوافق على ذلك فيما سنبين أسبابه فى حديث قادم. لكن المهم الآن هو كيف يتم استيعاب التراث فى العصر؟ لا شك فى ضرورة الفرز والانتقاء، ثم إعادة البناء والتركيب، وهى ملامح الإستراتيجية التوفيقية التى تنهض لدى الرجل على محورين:

الأول: أفقى حيث يتجول فى مكونات الثقافة الإنسانية ليميز داخلها بين أربعة أنساق أساسية: الديني/ الاعتقادى، ثم الأدبي/ الفنى ثم الفكرى/ القيمى، وأخيرا العلمي/ التجريبى، تختلف نسب الأصالة فيما بينها بحسب درجة التباين فى معايير صدق كل منها على مؤشر نفترض أنه يتحرك من صفر إلى واحد صحيح، يبدأ حركته من الدين كمكون ،اعتقادى وسيلة إدراكه هى الكتاب المقدس و«الوجدان»، ومن ثم يحق للعقل العربى أن يتمسك إزاءه بخصوصيته الكاملة، باعتبار أنه مدار الحد الأقصى للأصالة والذاتية والهوية. كما يبلغ أقصاه عند العلم الطبيعى، ووسيلة إدراكه هى االعقلب ومن ثم يجسد النسق الأكثر كونية والذى يتعين إدراكه وممارسته بموضوعية وحياد من قبل العقل العربى تحقيقا للمعاصرة. وفيما بين الحد الأقصى للأصالة (الدين) والحد الأقصى للمعاصرة (العلم) ثمة نسقان وسيطان: الفكر يلى العلم فى تحقيق المعاصرة، إذ يحمل مفاهيم وأفكارا (كونية) تختلط بقيم ومبادئ اجتماعية (خاصة). والأدب والفن يليان الدين فى تحقيق الأصالة، كونهما ينبعثان من ذائقة (ثقافية ) تنغرس فى التجربة الحضارية لجماعة قومية ما وإن تشاركت، فى الخبرة الجمالية مع غيرها بقدر ما تنتمى للمشترك الإنساني. وعلى هذا تصبح الهوية العربية هى حصيلة اجتهادنا الذاتى فى فهم الدين، ومستوى إبداعنا الجمالى فى الفن والأدب، ومدى إسهامنا الفكرى فى التطور الإنسانى، ومحض مشاركاتنا فى النشاط العلمى الكوكبى. كما تصبح أصالة العربى نتاجا تلقائيا لنشاطه سواء حينما يخضع لواقع العالم كما يثبته العلم، أو حينما يتجاوب مع ذاته الداخلية كما تصوغها ذائقته الثقافية.

أما الثانى فرأسي، حيث تجول الرائد التوفيقى فى شتى طبقات تراثنا الذى هو «عالم أوسع من المحيط, يشتمل على جميع ما أبقت عليه الأيام بعد أن فعلت عوامل الفناء فعلها»، مثبتا الوقفات العقلانية فيه؛ لأنها تجسد منهجا للنظر يبقى صالحا للعصر، ونافيا الوقفات اللاعقلانية التى تجافى روح العصر. فعلى صعيد النفى يرفض أولا «أن يكون صاحب السلطان السياسى هو فى الوقت نفسه، وبسبب سلطانه السياسى، صاحب االرأىب لا أن يكون مجرد صاحب ارأى»، لا يمنع رأيه هذا أن يكون لغيره من الناس آراؤهم، حيث طال هذا القيد كثيرين، منهم بشار بن برد لشعر أنشده لم يعجب الخليفة المهدى فقتله، والحلاج فى مأساته الشهيرة حين أمر الوزير العباسى على بن عيسى بضربه ألف سوط، ثم بقطع يديه، قبل أن يحرقه فى النار لقوله بمذهب الحلول. وكذلك الإمام أحمد بن حنبل وما لاقاه من تعذيب فيما عرف بـ «محنة القرآن» لقوله بأن القرآن «أزلي» مع أزلية الله عز وجل، ضد ما كان المعتزلة يعتقدون فى كونه «حادثا» أو امخلوقاب من الله. وهو يرفض ثانيا انسداد باب الاجتهاد، وانغلاق أفق الإبداع عندما «يكون للسلف كل هذا الضغط الفكرى علينا فنميل إلى الدوران فيما قالوه وما أعادوه ألف ألف مرة. فعندئذ تنسدل الحجب الكثيفة بين الإنسان وبين ما جاءت به الأيام من تطورات فى العلم والمعرفة». ويرفض ثالثا خضوع المنهج العلمى للخرافة حيث «الإيمان بقدرة الإنسان/ الولى/ صاحب المقام على تعطيل قوانين الطبيعة، فليست الأحداث لدينا مرهونة بأسبابها الطبيعية إلا ونحن فى قاعات الدرس بالمدارس والجامعات، حتى إذا ما انصرف كل منا إلى حياته الخاصة فى داره أو فى المجتمع، أفسح صدره لكل خرافة على وجه الأرض، يقبله راضيا مغتبطا».

وعلى صعيد الإثبات يؤكد على الكثير من الرؤى النقدية المؤسسة لنزعات عقلانية وتحررية ابتداء من المعتزلة فى القرن الثانى الهجرى، وبالذات فيما يتعلق بمسألة «الفعل الإنسانى». وأيضا لدى الجاحظ فى «رسالة المعاش والمعاد» حيث يقول مؤكدا لنمط من العقلانية العملية «أعلم أن الله جل ثناؤه خلق خلقه، ثم طبعهم على حب اجترار المنافع ودفع المضار، وبغض ما كان بخلاف ذلك، هذا فيهم طبع مركب وجبلة مفطورة، لا خلاف بين الخلق فيه، موجود فى الإنسان والحيوان». وعند رسائل «إخوان الصفا وخلان الوفاب يؤكد على موقفهم النقدى من الشريعة التى ادنستها الجهالات, واختلطت بالضلالات, ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة..». ولدى أبى حيان التوحيدى تفريقه بين العقل والحس, حيث الأول ثابت والثانى متغير «أن العقل يوصف بشهادة الحس, وكذلك الحس يوصف بشهادة العقل، إلا أن شهادة الحس للعقل شهادة العبد للمولى, وشهادة العقل للحس شهادة المولى للعبد»، قبل أن يختتم وقفته بابن رشد أحد أبرز رواد العقلانية العربية فى نهاية القرن السادس الهجرى، والذى أثبت مبدأ السببية الطبيعية، ضد إنكار الغزالى لها، ورده على كتاب الغزالى «تهافت الفلاسفة» بكتابه «تهافت التهافت»، فيما جسد إحدى أبرز المعارك الفكرية بين العقل والنقل فى التاريخ العربى.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف