مجلة المصور
يوسف القعيد
مجلس النواب .. تجليات عبقرية المكان .. تتحدث عن نفسها؟!

هذه كتابة حب، تنطلق من أمرين أساسيين، الأول التجربة الإنسانية التى مررت بها على مدى السنوات الثلاث الماضية. والثانى التأصيل العلمى والتاريخى الذى قرأته فى كتاب مهم أهدانى إياه مؤلفه، وهو محرر برلمانى كنت أراه دائماً وأبداً فى قاعة أو رواق الصحفيين فى البرلمان، الذى أحرص على التردد عليه باعتبارى كنت وما زلت وسأظل صحفياً. الكتاب عنوانه: البرلمان المصرى ٢٠٠ سنة تحت القبة لمحمد المصرى.



لا أبالغ عندما أقول إن لدىَّ الآن فى بيتى مكتبة كاملة عن البرلمان، منذ نشأته وحتى اللحظة الحاضرة. لأنها توفر لى حالة من التأصيل لما أراه بأم عينى خلال الجلسات. فأجمع بين أمرين ربما كان الجمع بينهما من رابع المستحيلات. المعايشة والتأصيل. أى البحث عن أعماق ما أراه وما أسمعه وما أعيشه كل يوم. ومكتبة البرلمان عندى فيها تواريخ ومذكرات شخصية، ورسائل جامعية، وكتابات صحفيين. بل ربما كانت فيها مضابط جئت بها من أسوار الكتب القديمة قبل أن أكون عضواً فى البرلمان. لإحساسى أن الورقة العادية عندما تصبح وثيقة يصبح لها ألق تاريخى لا يقدر بمال.



مبنى مجلس النواب يعتبر شاهداً على كفاح الأمة منذ افتتاح مبنى البرمان المصرى فى ١٥ مارس سنة ١٩٢٤، حيث عقدت الجلسة الافتتاحية لمجلسى الشيوخ والنواب بعد صدور أول دستور مصرى حديث.



إن مجلس النواب الذى يتجسد فى هذا المبنى الضخم الجميل ذى الطراز المعمارى الذى لا تملك إلا أن تحبه ويتوسط القاهرة، يمكن اعتباره من آثار مصر فى تاريخها الحديث. فليس الأثر هو المكان المهجور الذى نتركه لكى يزوره الزوار. ويتجول فيه الباحثون والمؤرخون. بل الأثر هو ما بُنى منذ سنوات بعيدة حتى وإن كان يشغله من يقومون بعمل ما بداخله.



مجلس النواب المصرى يمكن القول إنه تحفة معمارية. وقد تم بناؤه على طراز يجمع الأساليب المعمارية الأوربية التى كانت سائدة فى نهايات القرن التاسع عشر. بالإضافة إلى الأساليب والمؤثرات الإسلامية والفرعونية. كل هذا فى تزاوج بديع. من الصعب أن تقول هنا يوجد الأثر الأوروبى. وهناك توجد التأثيرات العربية والإسلامية. لأن التناسق والتلاحم يحمل أهم سمة من سمات المبنى.



المبنى الحالى تتوسطه القاعة الرئيسية التى تعقد فيها الجلسات. ويبلغ قطرها ٢٢ متراً وارتفاعها ٣٠ متراً. وقد شهدت هذه القاعة – التى ما زالت موجودة حتى الآن – أحداثاً جساماً غيرت وجه مصر. بل ربما غيرت وجه العالم كله. والكتابة عنها قد تأخذنا عن موضوعنا الأساسى. فأنا أكتب الآن عن المبنى الذى كان حديث مصر والوطن العربى والأمة الإسلامية والعالم طوال هذا الأسبوع.



تعلو القاعة قبة يتوسطها جزء من الزجاج لإضاءة القاعة. ثم يعلو هذه القبة شخشيخة بها أربعة شبابيك، وعلى القبة من الخارج زخارف بارزة. أما مركز الدائرة من الداخل ففيه زخارف نباتية. وهذه القبة أصبحت جزءاً من تراث مصر المعمارى. بل ربما كانت تحفة معمارية لا مثيل لها لدى الدول العربية والإسلامية الشقيقة.



ويوجد فى صدر القاعة شعار الجمهورية والمنصة التى يجلس عليها رئيس المجلس وبعدها منصة يقف عليها من يلقى بياناً على المجلس من أعضاء الحكومة أو النواب. وفى الأسفل منصة الأمين العام للمجلس. ثم سكرتارية الجلسة الذين يدونون كل ما يقال فى الجلسة. فعلاوة على تسجيل ما يدور بالصوت والصورة. لا بد من تدوين ما يقال بصورة آنية وفى نفس اللحظة.



إنهم موظفو الأمانة العامة الذين يسجلون الجلسات كتابة، ويعدون المضابط. وقد تم إدخال بيانات الأعضاء على الكمبيوتر. وعرضها على شاشات الكمبيوتر لرئيس المجلس. وتم مؤخراً تزويد القاعة بأجهزة التصويت الإلكترونى بالإضافة إلى التصويت برفع الأيدى أو نداء بالاسم أو الوقوف. وقد تم تسليم نواب برلمان ٢٠١٦ كارتاً ممغنطاً يستخدم فى التصويت، واتبع نظام البصمة الإلكترونية، التى تستخدم لإثبات الحضور والانصراف والحساب المالى للنائب بدلاً من التوقيع بالأيدى.



يلحق بالقاعة الرئيسية عدة أجنحة. منها استراحة لرئيس الجمهورية. واستراحة رئيس الوزراء والوزراء. بالإضافة إلى البهو الفرعونى الذى يلتقى فيه النواب قبل الجلسة وتم افتتاحه مع المبنى الرئيس فى عام ١٩٢٤، وقد شهد البهو الفرعونى على نمط صالات الأعمدة فى المعابد المصرية القديمة. حيث تحتوى على ٢٤ عموداً متماثلة فى الحجم والزخرفة. وللبهو الفرعونى أرضية جرانيتية حمراء.



أما السقف فينقسم إلى مناطق حسب أغراض الإضاءة.



والجزء العلوى لحوائط البهو مزين بثلاثة أشرطة زخرفية فرعونية. أما بالنسبة للمساحة المحصورة بين كل عمودين من أعمدة البهو الفرعونى. فهى تحوى منطقة مزخرفة برسوم ونقوش الآلهة ومناظر من مقابر ومعابد مصرية قديمة. ويوجد فى البهو الفرعونى تمثال الملك خفرع من الدولة القديمة. وتوجد بها ساعة جدارية فريدة فى نوعها وزخرفتها. حيث ظهرت على هيئة واجهة معبد يتقدمه عمودان ويعلوها شكل يمثل الإله حورس.



والبهو الفرعونى وكنت أحب أن يسمى البهو المصرى أو بهو مصر، باعتبار أن كلمة فراعنة تشير إلى حكام مصر فى مرحلة تاريخية قديمة. لكن من المستحيل تغيير مسمى ثبت تاريخياً وأوشك أن يكمل قرناً من الزمان. هذا البهو هو المكان الأجمل والأحب إلى قلبى فى المجلس كله. نجلس فيه على راحتنا. نتحدث فى كل ما يمر الوطن من هموم وشجون. من أفراح وأطراح. وقد مرت به أحداث تاريخية مهمة. وسالت الدماء على أرضه فى سابق الأيام وسالف العصر والأوان. ربما كانت الكتابة عنها بعيدة عما أريد أن أكتبه الآن.



لا أريد أن يأخذنى الوصف لكى أصف ما أراه وما عايشته ١٠٩٥ يوماً عشتها باعتبارها تجربة فريدة من تجارب العمر المهمة والجميلة، التى لا بد أن تنتج عنها كتابات لا أدرى شكلها ولا مداها ولا محتواها ولا الغرض من كتابتها الآن. فمن المستحيل على الإنسان عندما يعيش تجربة أن يعيشها بهدف الكتابة. وأن يضبط نفسه فى كل لحظة وهو يراقب ذاته ويحاسبها استعداداً لما يمكن أن يكتبه. فإما أن يعيش الإنسان حياته. وإما أن يراقبها. وإن راقبها لن يستطيع أن يحياها أبداً.



كما أن الجلسة التاريخية الكبرى التى جرت وقائعها يوم السبت الماضى. وكان الاستعداد لها قد استغرق أياماً. بل ربما شهوراً. حيث شهد مجلس النواب ما يمكن أن يسمى بالبناء والتشييد الثانى له. بعد تجربة بنائه الأولى سنة ١٩٢٤. حيث لم يترك أى شيء فى المبنى للصدفة. والاستعداد لهذه الجلسة. بل وإجراء بروفات ما حدث فيها امتدت من داخل المجلس إلى خارجه. ووصلت إلى ميدان التحرير. والشوارع المؤدية إلى المجلس. وهو ما رأيناه جميعاً عندما تحولت البروفات إلى الحدث الرئيسى.



على مدى الأيام السابقة على هذا اليوم التاريخى، لم أكن أستطيع الذهاب للبرلمان إلا للضرورة القصوى. لأن العمل كان موجوداً فى كل مكان. حتى فى القسم الطبى الذى يذهب إليه الإنسان ليعالج من مرض ما. هذا القسم ناله الكثير من التجديد ومن إعادة البناء ومن إعادة الإعمار.



أما جلسة السبت التاريخية التى سيتوقف التاريخ أمامها طويلاً. وسيكون لها ما قبلها وما بعدها فأترك الكتابة عنها لزملائى وزميلاتى من المحررين البرلمانيين حتى لا أستخدم عضويتى فى العدوان على دور هم أحق منى ألف مرة فى القيام به.



ولن أنسى حتى لو رغبت فى النسيان وبحثت عنه، لا يمكن أن أنسى أن تعبير عبقرية المكان يعود لصاحبه جمال حمدان، الذى نحته لأول مرة فى تاريخ الكتابة العربية عندما كتب عن مصر: شخصية مصر دراسة فى عبقرية المكان. والدار الوحيدة التى تملك حق نشر هذا الكتاب هى دار الهلال.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف