الأهرام
جلال امين
ماذا حدث للتنمية الاقتصادية؟
فى منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، أى منذ أكثر قليلا من ستين عاما، نشر اقتصادى بريطانى كبير هو آرثر لويس (Arthar Lewis) كتابا بعنوان «نظرية النمو الاقتصادي» سرعان ما اشتهر، بل واعتبر البعض أنه فى ميدان النمو والتنمية يمكن أن يقارن بكتاب آدم سميث الشهير (ثروة الأمم) بمكانته المعروفة فى تطور علم الاقتصاد.

بعد سنوات قليلة من ظهور هذا الكتاب نشر كاتب أمريكى معروف، هووالت روستو (W. Rostow)، كتابا حقق بدوره شهرة واسعة بعنوان «مراحل النمو الاقتصادي» ذهب فيه إلى أن من الممكن تصنيف أى دولة بحسب درجة نموها الاقتصادى فى مرحلة من أربع مراحل سماها: المجتمع التقليدى ثم التمهيد للانطلاق، ثم مرحلة الانطلاق ثم مرحلة الاستهلاك العالي. خلال الستين عاما التالية زادت بشدة الكتابات فيما عرف بموضوع التنمية الاقتصادية، وزاد عدد المتخصصين فيه وعدد كراسى الاستاذية المخصصة له فى الجامعات، وأصبح من أكثر الموضوعات جاذبية للطلبة الآتين من دول العالم الثالث والمتحمسين للإلمام بشروط النهوض باقتصاديات بلادهم، حتى يطبقوها متى عادوا إليها وتولوا مختلف أنواع المسئولية.

كانت النتيجة هى ما نراه الآن فى الدول التى كانت تسمى بالعالم الثالث، ثم سميت بالدول النامية لفترة ما، ثم أصبح من الصعب، أكثر فأكثر، تمييزها عن غيرها من الدول إلا من حيث متوسط الدخل ودرجة التصنيع، إذ أصبحت تفعل مثل ما تفعل غيرها، ولا تهدف إلا إلى أن تصبح صورة أو أخرى من الدول المسماة بالمتقدمة.

لا شك أن ظهور هذا الجزء من الدراسات الاقتصادية كفرع جديد من علم الاقتصاد، كان وثيق الصلة بما كان يحدث فى العالم الواسع فى ذلك الوقت. كان الصراع الأيديولوجى على أشده ما بين المعسكرين، الاشتراكى والرأسمالي، وكان على رأس كل من المعسكرين شخصية قوية راسخة الإيمان بصحة ما تعتقده، ولا تشك فى فائدة تطبيقه فى دول العالم الثالث، كثرت فى تلك السنوات الانقلابات العسكرية، فى هذا الجزء من العالم، بعضها يعلن ولاءه للمعسكر الشرقى وبعضها للمعسكر الرأسمالي، ولكن يعلن الجميع تصميمهم على تحقيق التنمية الاقتصادية السريعة، مع درجة أو أخرى من العدالة الاجتماعية، إما فى ظل تدخل صارم من الدولة أو بدونه، اعتمادا على تطبيق صورة من صور الإصلاح الزراعي.

نتج عن كل ذلك ارتفاع ملحوظ فى معدلات نمو الدخل القومى بعد عشرات من السنين (بل وأحيانا عدة قرون) من الركود الاقتصادي. حققت مصر مثلا فى العشر سنوات (55 ـ 1965) حوالى 6 ــ 7% كمعدل لنمو الدخل القومى (مما يسمح بمضاعفة الدخل فى عشر سنوات)، بعد أن ظل متوسط الدخل ثابتا فى الأربعين عاما السابقة، كما حققت دول كثيرة من العالم الثالث تقدما ملحوظا فى معدل التصنيع، مستفيدة مما أبداه كلا المعسكرين من استعداد لتقديم معونات اقتصادية سخية، إذ أصبحت هذه المعونات وسيلة مهمة من وسائل كسب الولاء السياسي.

حدث شيء مهم ابتداء من منتصف الستينيات، يمكن تفسيره بما يسمى ببداية «عصر الوفاق» بين المعسكرين مما قلل من تدفق هذه المعونات، وكذلك باشتداد ساعد الشركات العملاقة التى تسمى أحيانا بمتعددة الجنسيات، التى فرضت على دولة بعد أخرى «انفتاحا اقتصاديا» تخضع فيه سياسة الدول الصغيرة لأغراض وتوجيهات هذه الشركات، بدأ بهذا عصر جديد يتسم فيه النمو الاقتصادى بدرجة أقل من تدخل الدولة ومن العدالة الاجتماعية، فازدادت درجة اللامساواة فى توزيع الدخل، ليس فقط فى العالم الثالث، بل فى العالم ككل، مما شرحه ودعمه بالإحصاءات الاقتصادى الفرنسى توماسى بيكيثي.

مازلنا فيما يبدو نعيش هذا العصر الذى بدأ منذ نحو خمسين عاما، الدولة تلعب دورا أضعف بكثير، والأيديولوجيات لا تكاد تلعب دورا على الإطلاق، ومعدلات الربح هى المحرك الأساسى لحركات رءوس الأموال والاستثمارات والسياسات الاقتصادية ليس غريبا، فى مثل هذا المناخ، أن يقل الكلام عن «التنمية الاقتصادية» فشعار أو هدف التنمية الاقتصادية يفترض وجود درجة لا يستهان بها من تدخل الدولة هو الذى يميز التنمية عن مجرد النمو، كما يفترض وجود أهداف تتجاوز الاقتصاد إلى جوانب أخرى من الحياة الاقتصادية، قد يشعر البعض بأن هذا التحرك تغير فى الاتجاه السليم، على أساس الاعتقاد بأن الدولة لا تدخل ميدانا إلا أفسدته، ولكن آخرين (وأنا منهم) يشعرون بأن هذا التحول ينطوى على خسارة مؤكدة، إذ إن ما يترك من أنشطة دون أى تدخل من الدولة هو الذى يجب أن يؤسف له. صحيح أننا نعيش الآن عصرا لا يكف عن تمجيد ترك الناس أحرارا من أى قيد يمكن أن تفرضه الدولة، ولكن هذا على الأرجح ليس إلا «موضة» من موضات السياسة الاقتصادية سوف تنتهى بعد فترة طويلة أو قصيرة، ثم يعود الشعور بالحاجة إلى تدخل أكبر من جانب الدولة، ويستدعى هذا التدخل بالفعل.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف