الأهرام
نبيل عمر
النبى وتساؤلات عن زواجه الأول
فى سيرة السيدة خديجة حكايات مختلفة تصل إلى حد التناقض، عن زواجها قبل النبى وعمرها وقت الزواج منه، وابنتيها راقية وزينب، ومع أن الشائع ليس بالضرورة صحيحا، ليس أمامنا سوى أن نأخذ بالرواية الشائعة، حتى لو أحاطها بعض التساؤلات، لأن الروايات الأخرى وكلها مدونة فى كتب كتبها مؤرخون معروفون، قد تشتت أذهاننا وتحلق بنا فى فضاءات بعيدة، والأهم أن الرواية الشائعة هى التى تشكل وجدان غالبية المسلمين وأفكارهم.

وسيرة السيدة خديجة هى مفتاح مكانة المرأة فى الإسلام، فهى السيدة الوحيدة التى عمل لديها النبى قبل الرسالة، وصاحب العمل هو صاحب القوامة على من يعملون عنده، وهو الأمر الذى تجنب كُتاب السيرة تفسيره وشرح مغزاه.

وكما فعلوا فى العمل كرروا التجاهل مع سؤال آخر مهم : لماذا تزوج النبى من أمرأة تزوجت قبله من رجلين وأنجبت منهما؟، ولماذا لم تدخر له السماء عروسا عذراء لها نفس مواصفات السيدة خديجة من رجاحة العقل وطهارة النفس وطيبة القلب وعراقة العائلة وبحبوحة الثروة؟ أو تحفظها له عذراء دون زواج؟، هل هى رسالة من السماء بلغة قاطعة لم يفهمها كثير من المسلمين الذين حافظوا على عاداتهم وتقاليدهم حتى لو كانت بالمخالفة لتعاليم الإسلام؟...

كان الرسول عليه الصلاة والسلام فى الخامسة والعشرين من عمره حين بنى بها، أى كان شابا فى أوج عمره وحيويته، وكانت السيدة خديجة فى الأربعين حسب الرواية الشائعة وليست فى الثامنة والعشرين حسب الرواية المهجورة من عامة المسلمين.

بالطبع كان الإسلام يرسى قيما جديدة ويرسم للمرأة صورا «اجتماعية» مختلفة عما ألفته الحضارات السابقة، اذ كانت المرأة قبله متاعا تابعا للرجل بقوة السيف أو بقوة العادات والتقاليد، بل إن المرأة كانت تدفن فى بعض الحضارات حية أو تحرق مع جثة زوجها الميت، إذ لا يحق لها الحياة بعده، وكانت أهليتها المالية غائبة وملكياتها للأرض والعقار والثروة منعدمة أو محدودة، وتكاد تتركز فى نساء كن على علاقة وطيدة بالسلطة، أمهات ملوك وأباطرة وقياصرة أو زوجات وشقيقات أو محظيات ذات تأثير طاغ!

ثم يأتى النبى ويتزوج من أرملة، كانت مطلقة من زوج أسبق، ولها منهما ولدان وبنت، أى كان زواجه منها بمثابة إعادة ترتيب للعلاقات الاجتماعية ومفاهيم الزواج، رسالة تقول بوضوح إن زواج الرجال من النساء لا يستند فى أعمدته إلى عدم أسبقية زواجهن من عدمه، وإنما يستند إلى صفات وسمات من القيم والأخلاق الرفيعة، وأن المطلقة والأرملة لا تقل مكانة فى فرصة الحياة الزوجية عن «العذراء» التى لم يمسسها بشر، وأن العلاقة الخاصة لا يعيبها أن تفتقد « الترتيب الذكوري، فهى مجرد جانب مهم إلى جوانب كثيرة مهمة أيضا.

وإذا أتينا إلى كيفية التحاق النبى بالعمل لدى خديجة أو كيفية الزواج منها، لاكتشفنا بسهولة كيف يحضنا الإسلام على إعلاء «قيم العمل الجاد» وقيم إسعاد النفس بالبحث والإصرار والطلب.

كان مُحمد بن عبد الله معروفا بالأمانة والصدق والعفة، وكانت السيدة خديجة ذات مال وتجارة ورثتهما عن زوجها «أبو هالة بن زرارة بن النباش التميمي»، تستأجر الرجال لقوافلها المسافرة فى رحلتى الشتاء والصيف، وقيل إنها سمعت عن هذه الخصال فعرضت عليه أن يخرج فى مالها إلى الشام، وقيل إن عّم النبى «ابو طالب بن عبد المطلب» هو من أشار عليه بالعمل فى تجارة خديجة، وعلمت السيدة خديجة بما دار بين العم وابن أخيه، فأرسلت إليه طلبا لعمله.

أيا كانت التفاصيل، فنحن أمام سيدة راجحة العقل، تدرك كيف تدير مالها وتجارتها، وكيف تنتقى عمالها وتكلفهم بالمهام الموكولة إليهم، والأهم أنها تتابع ما يجرى فى مكة متابعة دقيقة، فعرفت من أمر « مُحمد بن عبد الله» ، ما دفعها إلى استدعائه، ولم يكن وقتها نبيلا ولا رسولا ولم ترسل السماء أى إشارات بأنه النبى المنتظر.

وكما كانت هى « الداعية» إلى العمل، كانت هى البادئة بعرض الزواج عليه، ولن أتوقف كثيرا عند ما سمعته السيدة خديجة من غلامها ميسرة، الذى صاحبه فى رحلته التجارية، بأنه نزل فى ظل شجرة، وقال الراهب نستور لميسرة: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي، وسأله: أفى عينيه حمرة؟، قال ميسرة: نعم لا تفارقه. قال: هو نبي، وهو آخر الأنبياء.

فهذه الحكاية إذا خضعت للتحليل قد لا تصمد قليلا، فمن أين لنستور أن يعرف قصة الشجرة مع الأنبياء منذ بدء الخليقة إلى أن نزل فى ظلها النبي، ومن هم الأنبياء السابقون الذين نزلوا إلى هذه الشجرة من قبل؟، ولماذا لم يتبع الراهب نستور «النبى المنتظر» ويصاحبه إلى أن تنزل عليه الرسالة فيكون أول المؤمنين به، وإذا مات قبلها، فهو فعل ما يوجبه عليه علمه وإيمانه.

النبى محمد صلى الله عليه وسلم ليس فى حاجة إلى « تزكية» لا من الراهب نستور ولا من حبر يهودى أو غيرهما، فهو مرسل من عند الله مالك الكون، فما حاجته إلى نبوءة نستور قبل أن يبعث الله له بـ«جِبْرِيل» يبلغه أمر السماء؟، وهل يعقل أن يعرف ميسرة أو نستور أو غيرهما بأمر النبوة قبل النبى نفسه؟

لكننا سنتوقف عند ما قاله ميسرة عن تصرفات الرسول وأخلاقه الكريمة فى رحلته التجارية، وهى أمور يمكن رصدها وكشفها وهو ما يظهر فى طلب خديجة الزواج منه، إذ بعثت إليه رسالة قالت له فيها: يا ابن العم، أنى قد رغبت فيك لقرابتك ووسطتك فى قومك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك.

وقيل إن السيدة خديجة قد تحدثت مع صاحبةٍ لها هى نفيسة بنت أمية، عن الصادق الأمين وما تكنه فى نفسها له، فقالت لها نفيسة: تأذنين لى وأنا أتدبر الأمر.. وقد حدث. أيا كانت التفاصيل فنحن أمام طلب زواج سعت اليه السيدة خديجة سعيا جادا.

وبالطبع لو طبقنا هذه المفاهيم على أوضاعنا الاجتماعية لراعنا ابتعادها المذهل عن مفاهيم الإسلام فى العمل والزواج ومكانة المرأة، وكيف استبدلنا بها مفاهيم بدوية أعرابية سيطرت على تصرفاتنا وحكمت قيمنا.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف