المصرى اليوم
أحمد الصاوى
المفوضون بشؤون الله
يأتى رمضان ويرحل كل عام، يروج سوق الأسئلة الدينية بكثافة، صحف، فضائيات، إذاعات، ومواقع انترنت، الناس لديها شغف للمعرفة والحصول على الإجابات الصعبة على الأسئلة الملتبسة، ليس مهماً الفائدة من الإجابة، أو ما قد يترتب عليها.
في كل عام تجد أسئلة مكررة من شاكلة، هل مات أبوطالب عم الرسول الكريم «ص» على الكفر أم الإيمان؟ هل مصيره الجنة أم النار،وهل سيراعى الله تعالى يوم الحساب، ما قدمه أبوطالب من دعم وحماية للرسول ودعوته، ويؤجره عليه، أم إن عدم ثبوت إيمانه يجعله من أهل النار؟ وهو كما تدرى سؤال لا تهم إجابته أحداً غير أبى طالب نفسه، والأرجح إنه تدخل في اختصاص الله تعالى، وإجابته بنعم أو بلا لا تضيف شيئاً لأولئك الفضوليين المشغولين بمصائر الآخرين، أكثر من تركيزهم مع أنفسهم واجتهادهم لتحسين مصائرهم.

***

يروى إن رجلان من العراق تجادلا عقب وفاة الحجاج بن يوسف الثقفى، هل هو في الجنة أم في النار، تمسك أحدهما أنه لا يجوز القطع بمصيره لأن من الغيب، بينما تمسك الثانى بأنه في النار مستنداً إلى دمويته وجرائمه وقتلاه وانتهاكه لحرمة الحرم المكى، حتى أنه من فرط اقتناعه برأيه أقسم بالطلاق أن الحجاج في النار، ولما وجد أن الجدل الذي ورط نفسه فيه أدخله في محظور فقهى لابد من إيجاد حل له، فماذا يفعل بيمينة؟ وما موقفه الشرعى من زوجته؟ أقبل الرجل على إمامأهل العراق الحسن البصرى، وسأله:

يا إمام: «قلت لصاحبي فور سماعي نبأ موت الحجاج إنه في النار، ولما عارضني بدعوي عدم الاطلاع على الغيب أقسمت (طلاقاً بائناً) بأن الحجاج في النار.. فماذا أفعل بيميني، وما موقف زواجي شرعاً؟»

فكر الإمام كثيراً في الأمر، وكانت الحيرة تستبد به.. الرجل أقسم طلاقاً على زوجته، وهو يعنى ذلك ولا يقصد اليمين المجرد الذي يمكن مداواته بكفارة، ومطلوب أن يتأكد من مصير الحجاج، إن كان في النار يكون اليمين صحيحاً، وإذا كان في الجنة يقع اليمين وتصبح زوجته «طالقاً»، وفجأة وجدها الإمام ـ وكأن وحياً أتاه من السماء ـ وقال للرجل: «اذهب يا هذا فوالله لو دخل الحجاج الجنة.. ما ضرك أن تلقي الله زانياً!».

***

هذا رأى شخصى للحسن البصرى، ربما تجد فيه اجتهاداً على طريقة «الحى أبقى من الميت» لإنقاذ زواج رجل وامرأة حتى لو بالقطع بالقاء رجل ميت في النار، أو يبدو رجماً بالغيب، وتدخل في اختصاص الله، بُنى على معاصرة هؤلاء للحجاج وحوادث القتل والذبح والتنكيل وضرب الكعبة بالمنجنيق، لكن في المقابل هناك من ينسب للحجاج الفضل في استقرار الدولة الأموية، والقضاء على النزاعات الداخلية، وتهيئة الجبهة الداخلية لمزيد من الفتوحات والتوسع.

هل سيحاسب الله الحجاج عن القتل أم سيؤجره على وأد الفتن والحفاظ على الدولة ونشر الإسلام في مناطق أخرى؟ أم إن في الثانية بعض الحسنات اللاتى يذهبن السيئات في الأولى؟ هذا ليس شأنى ولا شأنك، ولا شأن مخلوق.

***

انشغال الناس بمصائر غيرهم بعد الموت انشغال قديم، تطور حتى باتت الجنة والنار جزءا من الصراع السياسى، فظهرت جماعات وفرق وطوائف تحتكر لنفسها الجنة وتحرمها على غيرها، وتتوعد غيرها بالنار وتحرمها على نفسها، لا تكتفى بنقد الآخرين من أي وجهة، لكنها تتمادى إلى القطع بمصيرهم.

كان الخليفة أبوبكر الصديق صاحب الأدلة المتعددة على حُسن آخرته، يقول :«لا آمن مكر الله وإحدى قدمى في الجنة»، لكن خلفاء كُثر جاءوا بعده دون بيعة، وتوالوا حتى زماننا، يقولون إنهم أمنوا مكر الله وضمنوا حصرياً رحمته، ينشغلون بإيمان الاخرين ومصائر الآخرين، يتحكمون في باب الملة يُخرجون منها من يشاءون، ويمسكون مفاتيح الجنة والنار يوزعون الناس بينهما كما يشاءون، وكأنهم المفوضون بشؤون الله واختصاصاته التي انفرد بها لذاته ولم يوكلها لأحد في الدنيا ولا في الآخرة.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف