الأهرام
جلال امين
ماذا حدث للماركسية؟
فى هذا الشهر يكتمل قرنان على ميلاد مفكر مهم هو كارل ماركس، شغل الناس لمدة طويلة ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر، وقيل إنه لم يسل مداد فى الكتابة مثلما سال فى الكتابة عنه وعن أفكاره (ربما باستثناء أرسطو).

كنت فى السادسة عشرة من عمرى عندما ناولنى أخى حسين، الذى يكبرنى بعامين، كتابا صغيرا باللغة العربية، وقال لى إن من الواجب أن أقرأه. كان الكتاب مترجما عن الروسية والكاتب ليس إلا جوزيف ستالين الزعيم السوفيتي، وعنوانه «المادية الجدلية والمادية التاريخية» ويشرح فيه المبادئ الأساسية فى الفكر الماركسي.

كان المناخ الثقافى فى ذلك الوقت (أى فى منتصف القرن الماضي) مختلفا جدا عنه الآن، سواء فى الموضوعات التى تشغل الناس أو المصادر التى يستقون منها ثقافتهم. كانت الأفكار الماركسية تشغل الناس على نحو يثير العجب الشديد عندما نتذكره الآن. وكانت السلطات فى معظم البلاد العربية تمنع نشر أى شيء يتعلق بها، باعتبارها «تهدد نظام الحكم»، وتسميها «المباديء الهدامة». كانت الماركسية تدور حول الصراع الطبقي، وتفسر التاريخ كله بتطور هذا الصراع واتخاذه أشكالا مختلفة من عصر إلى عصر، وتدعو إلى إنهائه بالقوة، بأن يستولى العمال على الحكم. كنا نعتمد إلى حد كبير على الكتب المترجمة والمطبوعة فى بيروت التى كانت دائما تتمتع بحرية أكبر فى النشر.

من المدهش جدا أن نقارن الحالة الآن بالحالة التى كانت سائدة فى منتصف القرن الماضى وطيلة القرن السابق على ذلك. كان كارل ماركس وزميله فردريك انجلز قد نشرا فى منتصف القرن التاسع عشر البيان الشهير المعروف باسم «البيان الشيوعي»، الذى ختم بعبارة «يا عمال العالم اتحدوا، فليس هناك ما تفقدونه إلا قيودكم»، ولكن الحماس الذى قوبل به هذا البيان من جانب الحركات العمالية لم يستمر طويلا بعد الحرب العالمية الثانية، فمع صعود الأحزاب الاشتراكية إلى الحكم عقب هذه الحرب، ونجاحها فى تطبيق ما يقرب من العمالة الكاملة والقضاء على البطالة، تراجع موضوع الصراع الطبقي، ولم يعد هو أساس التفرقة بين الأحزاب المختلفة، بل أصبح من الصعب، أكثر فأكثر، التمييز بين مبادئ وسياسات الأحزاب اليسارية (والعمالية) وأحزاب اليمين أو الوسط. لا بد أن هذا التغير الذى طرأ على مواقف الأحزاب من الصراع الطبقى كان أحد الأسباب التى دعت فوكوياما إلى كتابة كتابه الشهير فى 1990«نهاية التاريخ».

لا بد أن يثور بالذهن السؤال عن العوامل المسئولة عن هذا التغير. ما السبب وراء هذا الضعف الشديد الذى أصاب فكرة «الصراع الطبقي»؟ مازال من الممكن بالطبع تقسيم المجتمع إلى طبقات، سواء من حيث مستوى الدخل أو السلوك الاجتماعي، والطموحات، ولكن من المؤكد أن هذا الموضوع لم يعد أكثر ما يشغل الناس أو الكتاب أو حتى السياسيين.

أريد أن أقدم هنا سببا واحدا قد يكون من أهم عوامل تراجع فكرة الصراع الطبقي، وهو أن فكرة «الاستغلال» الكامنة وراء فكرة الصراع الطبقى لم تعد هى أهم مصادر الشكوى من النظام الاجتماعى السائد.

لكارل ماركس كلمة مشهورة مؤداها أننا يجب أن نبحث عن مصدر الاستغلال فيما يجرى من علاقات داخل المصنع نفسه وليس فى خارجه، وكان يقصد بذلك الإشارة إلى فكرته الشهيرة عن «فائض القيمة»، أى حصول العامل على جزء ضئيل من قيمة ما ينتجه، بينما يحصل الرأسمالى على الجزء الأكبر منها فى صورة ربح، وهو ما اعتبره الماركسيون منافيا للعدالة.

ولكن الاستغلال قد تغيرت صورته بشدة خلال القرن الماضي، فمع نجاح الحركات العمالية فى الحصول على أجور أعلي، وانتشار الشركات المساهمة التى فتحت باب التملك أمام صغار المستثمرين، أيا كانت الطبقة التى ينتمون إليها، ومع ازدياد قوة الشركات ونجاحها فى إخضاع المستهلكين وترويضهم على الاستهلاك، بما فى ذلك شراء ما لا حاجة بهم إليه، ودفع أثمان لما يشترونه تزيد بكثير على قيمتها الحقيقية، سواء قيمة ما تستخدمه من مواد أولية وعمل، أو قيمة ما تولده من منافع حقيقية للمستهلكين، ظهر ان الخاضعين الحقيقيين للاستغلال ليسوا هم العمال بل المستهلكون، ولكن «ماركس» لم يكن يعنى بهذه الصورة من الاستغلال مثلما كان يعنى باستغلال العمال. لا عجب إذن أن ناقدى المجتمع الحديث لم يجدوا فى الكتاب الماركسية ما يشفى غليلهم، وكأن ماركس كان يتكلم عن عصر انقضي، أو هو فى سبيل الانقضاء، وأننا فى حاجة إلى نقاد من نوع جديد.

لم يكن من الممكن إذن أن يستمر الاهتمام بالكتابات الماركسية بنفس الدرجة، مع حدوث هذا التغير فى النظام الاقتصادى والاجتماعي. وقد ظهرت بالفعل خلال الخمسين عاما الأخيرة كتابات تحاول سد هذا النقص، وتعبر عن المصادر الجديدة للشكوي. من بين هذه الكتابات أذكر، على سبيل المثال، ماركيوز وسيكتوفسكى وجالبريث ونقدهم المجتمع الاستهلاكي، إذ يبدو فى هذه الكتابات أن الضحية الحقيقية قد أصبح المستهلك بدلا من العامل، وإذا كان العمال من بين الضحايا فهم كذلك باعتبارهم مستهلكين أكثر منهم كأيد عاملة.

ولكن لا يخفى على أحد أن الصورة الحديثة للاستغلال هى أكثر «نعومة» بكثير من الصورة القديمة. كان الاستغلال فى الماضى (وهو استغلال العمال) يقترن بالجوع والمشقة، بينما يقترن الاستغلال الحالى بمختلف صور الخداع والتضليل التى قد تختفى حقيقتها حتى عن الضحية الجديدة وهم المستهلكون. ليس من السهل المقارنة بين هذين النوعين من الاستغلال، أو المفاضلة بينهما، فالخضوع الاختيارى ليس بالضرورة أهون شأنا من الخضوع الاجباري، ولكن من المؤكد أن اكتشاف الاستغلال الجديد والتأكيد عليه يحتاج إلى مفكرين وكتاب من نوع جديد.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف