الوطن
ياسر عبد العزيز
بين نكبتين
فى مثل هذا اليوم منذ سبعين سنة، تم الإعلان عن قيام دولة إسرائيل على أنقاض فلسطين، وفوق جثث مواطنيها، ما أدى إلى ضياع دولة عربية، وتشرد شعبها، وخوض العرب نحو ست حروب، أدت إلى استشهاد عشرات الآلاف من أبنائنا، وفقدان السيادة على التراب الوطنى، على جبهات عدة.

يحق بكل تأكيد لنا أن نصف ما جرى آنذاك بـ«النكبة»، لكن مع ذلك يبقى التساؤل ماثلاً: وماذا عن أحوالنا الآن؟ ففى الأيام القليلة الفائتة تذكر العالم العربى «نكبته الأولى»، بموازاة احتفال إسرائيل بذكرى قيامها، لكن هذا التذكر جاء باهتاً ومرتبكاً ومختلفاً عما كان يجرى قبل عقود.

حين نعاين ما يجرى على هامش هذه «الذكرى» أو ذلك «الاحتفال»، سيثور سؤال فارضاً نفسه بقوة: هل باتت أوضاعنا الراهنة فى العالم العربى أبعد عن تشخيص «النكبة»، أم أكثر قرباً وتجسيداً لمعناه؟

ثمة سبعة ملامح للعالم العربى اليوم تجسد ملامح «نكبة» مكتملة الأركان، لكن تلك الملامح لم تصادف «يوماً فارقاً وحاسماً» يصلح لتكريس الذكرى لاحقاً، فضلاً عن أنها، للأسف، لم تبلغ ذروتها بعد، وحين يحدث ذلك، ستعجز القواميس ربما عن إيجاد وصف تكافئ دلالته المأساة على الأرض.

لا تنطبق تلك الملامح على الدول العربية كافة، وقد يتباين أثرها أو تتفاوت حدة بروزها، لكنها بكل تأكيد تشكل الإطار العام لما أصبحنا عليه اليوم، ومن خلالها يتحدد مركزنا الإقليمى والدولى، وتُصاغ السياسات التى تفرض علينا.

الملمح الأول: تشخيص العدو

تبدو «الأمة» أكثر من مرتبكة حين تجتهد لتشخيص «العدو»، وحين يحدث ذلك لأى أمة، فإنها تكون قد وقعت فى خطر عظيم.

بتشخيص «العدو»، يتبلور الهدف الأعلى، ومن ثم تتضح الآليات، التى من دونها لن تكون هناك رؤية للأمة، ولن يكون لديها «بيان مهمة»، ولا سجل مؤقت للمهام... أمة بلا رؤية، وبلا مهمة، وبلا موقف من العالم والتاريخ... ذلك أقسى ما يخافه محب، وأفضل ما يأمله كاره.

إذا قرأت صحف الأمة، وطالعت شاشاتها، أو فحصت مناهج التربية الوطنية والقومية المقررة على صغارها، يجب أن تجد تشخيصاً واضحاً لما تراه ضد مصلحتها، وما تعتبره واجباً لا تستقيم الحياة من دون إنجازه، وحين يغيب ذلك، تصبح الأمة بلا هدف.

اختلطت التشخيصات؛ بين الإرهاب، والتطرف، وإسرائيل، وإيران، والولايات المتحدة، والغرب، والجهل، والفقر، والمرض، وغيرها.

الملمح الثانى: الحرب

رائحة الحرب تملأ الأرجاء؛ ونحن لا نعرف إذا كانت الحرب ستخدمنا أم ستقوض ما بقى لنا من أمن ومصالح.

نحن لا نعرف فى أى صف يجب أن نقف... نحن منقسمون، بين من يؤيد ويطالب ويلح بضرورة إطلاق الصواريخ وتحريك البوارج، وبين من يعارض ويشجب ويدين، وبين من يقف حائراً لا يعرف ما الموقف الذى يجب أن يتخذه، والصف الذى يجب أن يكون فيه.

الملمح الثالث: فراغ القيادة

«لا يوجد نظام إقليمى عربى».. هذه عبارة حادة وحاسمة، وبقدر ما يمكن أن تتضمن من تفاصيل، فإن الشواهد كافة ستفضى إليها بكل تأكيد.

لا نتحدث عن اختلافات وتباينات بين دول رئيسة وثانوية، ولا نستعرض عدم الاتفاق على السياسات التى يجب أن يتبعها الإقليم إزاء تطورات حاسمة تتدافع بلا هوادة يوماً بعد يوم، لكننا نشير إلى أن الدول العربية لا تنتظم فى منظومة يمكنها أن تفكر وأن تقرر.

لم يمر يوم على العالم العربى منذ إعلان الدولة الوطنية نعم فيه العرب بنظام إقليمى متماسك وقادر على قراءة الأحداث واتخاذ ما يلزم حيالها، بما يحقق الحد الأدنى من المصالح المتفق عليها، وبما يضمن لهذا النظام الاستدامة، وللدول التى يعبر عنها البقاء.

لكن فى تلك الأثناء لا يوجد لدينا نظام إقليمى عربى فى الأساس، ولا تعبر الجامعة العربية سوى عن الحد الأدنى من التوافق بين حلفاء تربطهم مصالح مؤقتة، يظل حجمها وأثرها أقل كثيراً مما يتفاعل بينهم من تناقضات جوهرية وثانوية.

وهنا تضيع الفرصة الضئيلة السانحة فى تصليب اتجاه أو اتخاذ قرار.

الملمح الرابع: تفكك الدولة الوطنية

بعد العراق، راحت ليبيا، ثم سوريا، وأخيراً اليمن، والحبل على الجرار.

لم تعد الدولة العربية الوطنية يقيناً كما كانت على مدى العقود السبعة الفائتة، بل هى فى اختبار للقدرة على الوفاء بمتطلبات البقاء.

وفى غيبة النظام الإقليمى العربى، لا يُنتظر من الفاعلين الإقليميين تطوير خطط لاستعادة الدول التى تفككت، بقدر ما يُستدعى الأمل فى عدم انزلاق دول أخرى إلى الفوضى.

لقد ظهر لنا بوضوح أن تلك البيارق، والأناشيد، والصحف والإذاعات الرسمية، وقصور الرئاسة، وبعثات التمثيل الدبلوماسى، لم تكن أكثر من ادعاءات، لا تسندها وقائع، وحين هبت العواصف، تهاوت مع أول اختبار.

الملمح الخامس: تبدل نسق القيم

لم تعد الرموز محلية أو قومية، لا تربطنا أنساق من القيم المتفق عليها بما يكفى للوفاء باستحقاقات مصطلح «الأمة».

نشجع الفرق العالمية، ونرتدى «البراندات»، ونتعارك فى «السوشيال ميديا»، ولا نحفل بقيمة أو معيار، ولا نُبقى رمزاً من دون استباحة وتجريح.

لم تعد اللغة محل اعتبار، والأخطر من ذلك أن التوسل باللغة الأجنبية بات علامة من علامات التحضر، ومع كل ما ندعيه من مظاهر تدين شكلى، لم نُبقِ لمعنى الدين وقاراً، وبعد تطويع التأويل الدينى لمقتضيات المصالح السياسية الضيقة، بات موضوع اقتتال.

الملمح السادس: الديمقراطية لا تصلح لنا

ليس هذا ما يقوله منظرو السياسة المحافظون فى العالم الغربى عن منطقتنا فقط، ولا هو ما يستند إليه بعض الحكام لإعفاء أنفسهم من استحقاقات التنمية السياسية، واعتبارات المشاركة العمومية، وبناء جسور التفاهم الوطنى فقط، لكنه بات أيضاً، مع الأسف، موقفاً للاتجاه الرئيسى بين نخب الأمة وعوامها.

هذا ما يمكن إدراكه، بعد استبعاد تأثير أقاويل الاستبراء من مديح الديكتاتورية وغسل الأيدى من الامتثال لدعاوى الشمولية.

الملمح السابع: الفقر

رغم ما تمتلكه «الأمة» من ثروات، فإنها أظهرت خطلاً مزرياً فى توظيفها فى خدمة الإنسان العربى الفرد.

نحن نعلم حجم تلك الثروات، ونعلم كيف تم التصرف فيها، لكننا لا نعرف طريقاً لاستعادة ما تم نهبه، أو الاتفاق على طريقة لتوظيفها بما يخرجنا من دوائر الفقر والعوز.

لا تجد تلك الشعوب الفقيرة فرصة لالتقاط أنفاسها أبداً، فهى مطحونة للوفاء بمتطلبات حياة طاحنة، آخذة فى التفاقم والاتساع.

وفى ظل هذا الانشغال اللاهث بتوفير ما يقيم الأود، لا يبقى مجال للحديث عن المحاسبة والمساءلة والمشاركة، أو تدقيق القرارات، وترشيد الحكم.

سيكون أمام العالم العربى طريقان لا ثالث لهما؛ فإما اليقظة والانتباه، والإقرار بـ«النكبة» المعاصرة، والعمل على الخروج من أسرها، أو الاستمرار فى ملاحقة الأحداث، وصولاً لذروة «نكبة»، لن يكون بعدها مجال للتذكر أو الاعتبار.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف