المصرى اليوم
عمار على حسن
الطلاءات المزيفة
أراد كثير من أهل الحكم على مدار التاريخ الإنسانى أن يظلوا رموزا خالدة فى ذاكرة الشعوب، حتى لو زعم بعضهم غير ذلك. فالحاكم يدرك أن الحكم لا بد أن يزول عنه فى يوم من الأيام، إما بالموت أو الإزاحة أو الرحيل الطوعى أو المفروض وفق مبدأ «تداول السلطة»، ويدور فى خلده أحيانا وتنتابه خواطر حيال ما سيقال عنه بعد أن يفقد سلطانه، لتصبح الغاية القصوى هى أن يتحول الحاكم إلى رمز، أو يتواضع قليلا، فيتمنى لو أن حدثا عظيما وقع فى عهده وارتبط به، أو كان له فيه دور عريض، يصير رمزا عند اللاحقين، يستدعونه، ويتمثلونه، ويمتلئون به.

وبدورها تحيى الأجيال اللاحقة أحداثا وشخصيات كانت منغمسة فيها على أنها رموز، بعد أن تكون قد اختمرت فى الذاكرة الجمعية، وامتلكت القدرة على إثارة مشاعر متجددة. فتلاميذ المدارس فى فرنسا حتى الستينيات كانوا منقسمين على رموز تؤيد الثورة الفرنسية أو ترفضها. واستعمل الأمريكان أحداثا وأماكن كرموز لإلهاب حماس الشعب كى يقبل انخراط الولايات المتحدة فى الحرب، مثل ضرب ميناء بيرل هاربر أثناء الحرب العالمية الثانية، وتفجير مركز التجارة العالمى فى 11 سبتمبر 2001، وحاول الرئيس الأمريكى لونيد جونسون استخدام الهجوم على المراكب الأمريكية لتبرير الحرب على فيتنام، ووظفت إنجلترا وفرنسا وإسرائيل تأميم جمال عبدالناصر لقناة السويس فى العدوان على مصر عام 1956، واستعمل السادات حرب أكتوبر 1973 فى محاولته أن يكون رمزا للأمة معلنا من نفسه «رب العائلة المصرية»، وكان صدام حسين مشغولا برمزيته العربية، باعتباره مدافعا عن البوابة الشرقية للأمة، والمتصدى لأمريكا وإسرائيل، وسعى معمر القذافى طويلا ليكرس رمزية اختلقها حين سمى نفسه «أمين القومية العربية». وهذا كله معناه أن «الرمزية» المرتبطة بشخص أو حدث أو شخص يستغل حدثا أو حدث يصنع شخصا- لا تكون مسألة حقيقية فى كل الأحوال، إنما تتخذ مجازا سواء فى عقل السياسى أو فى المخيلة الكلية للشعب.

وطالما حاولت أبواق الدعاية أن تصنع هذه الرمزية، بالمبالغة فى وصف سمات القائد السياسى وقسماته، وتضخيم ما يقع فى عهده من أفعال، يتم تصديرها على أنها إنجازات مبهرة. وهناك قائد يطلب بنفسه أو عبر وسيط من راسمى الصور الذهنية، من الكتاب والأدباء والفنانين والخبراء أن يرمموا شروخه، ويجملوا قبيحه، ويعظموا مليحه، حتى يكبر فى عيون الشعب، ويراه «الرمز» الذى لا يتم للدولة وجودها إلا بحضوره، وعلى من يأتى بعده أن يتبع خطاه كى «تكتمل المسيرة».

لكن الشعب فى الغالب الأعم يدرك فى أناة وروية ومكر أن الطلاءات المزيفة ليس بوسعها أن تبقى طويلا على الجدران، وتساقطها تباعا آتٍ لا ريب فيه، بل هناك بينه من يمتلك جسارة فيمد يده ليعجل بهذا التساقط، مبقيا على الحقيقة عارية، أما ما تم إضفاؤه من مجازات وخيالات تنطوى على مبالغات واضحة فاضحة، ليس بوسعه أن يعمى كل العيون، ويصم كل الآذان، ويخرب كل النفوس، ويخمد كل الضمائر.

فى المقابل، فإن الرمزية الطوعية التى نسج الشعب خيوطها بإرادته الحرة المنفردة لن يقدر على طمسها أحد، حتى لو كان حاكما لاحقا أراد الانتقام من سلفه، بتشويه صورته، وتسفيه أعماله، أو كانت فئة من الشعب تضررت مصالحها خلال فترة حكمه، أو دولة أجنبية طامعة فى بلاده صدها وردها وأوقفها عند حدها.

فالرمزية الحقيقية لا تصنعها الأكاذيب، بل الأفعال الجادة المعتبرة وكاريزما القائد، والمسافة النفسية العامرة بالمودة بينه وبين الناس، وإدراكهم أنه لم يخدعهم، ولم يخذلهم، ولن يظهر أبدا بعد رحيله عن السلطة ما يشينه، ويفزع من وثقوا به، وساروا خلفه، أو التفوا حوله.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف