المصرى اليوم
محمد نور فرحات
التنمية بالنزوات
لن أتحدث فى هذا المقال عن فساد الإدارة وإدارة الفساد فى مجال التنمية، فهذا حديث له زمانه ومكانه وأهله، والخوض فيه له محاذيره وعواقبه. ولكن أتحدث عما أسميه بالإدارة بالنزوات أى تلك الإدارة التى تختلف توجهاتها وتتقدم وتتراجع مع تغير وتبدل أصحاب السلطة والقرار وتبدل نزواتهم الفكرية فى غيبة منظور استراتيجى متفق عليه مجتمعيا عن أهداف التنمية وأولوياتها وآلياتها. ووصف النزوة ليس هجاء بل هو تعبير منضبط عن آلية اتخاذ القرار التنموى يشير إلى ارتباط القرار بالرؤية الشخصية لصاحبه.
أقدم للقارئ من غير تفصيل نماذج لمشروعات هللنا لها فى حينها، وعدلنا عنها لنزوة إدارية أو سياسية. وأضرب أمثلة بمشروع منخفض القطارة ومشروع توشكى، والعاصمة الإدارية فى مدينة السادات، وترعة الحمام، ثم القاهرة الجديدة التى غرقت طرقاتها تحت وابل الأمطار منذ أيام.

فى كل هذه الأمثلة تنشئ الدولة مشروعاتها وتنفق عليها الأموال ثم تتركها نهبا للإهمال لا لشء إلا لأن صاحب القرار أراد الإقدام أو الإحجام دون أن يسأله أحد لماذا أقدم ولماذا أحجم، لأنه لا حرية فى السؤال. وهنا تبدو العلاقة وثيقة بين التنمية والحرية كما نبهنا الاقتصادى الهندى صاحب نوبل أبارثيا صن.

منخفص القطارة منخفض ضخم يقع بالصحراء الغربية. يقترب طرفه الشرقى من البحر المتوسط عند العلمين، مساحته حوالى 20 ألف كم مربع، طوله حوالى 298 كم وعرضه 80 كم، ويبدأ المنخفض من جنوب العلمين على مسافة 100 كم تقريباً. مشروع منخفض القطارة بدأت دراسته علميا عام ١٩١٦ويهدف إلى تحويله إلى بحيرة ضخمة عن طريق شق قناة بينه وبين البحر المتوسط، فتتولد طاقة كهربائية وفيرة. أول من فكر فى المشروع البروفيسور هانز بنك أستاذ الجغرافيا فى جامعة برلين عام 1916، ثم دعمه البروفيسور جون بول وكيل الجمعية الملكية البريطانية الذى نشر دراسة عنه فى عام 1931. القناة بطول 75 كيلومترا تندفع فيها مياه البحر المتوسط إلى المنخفض الهائل الذى يصل عمقه إلى 145 متراً تحت سطح البحر، لتكوين بحيرة صناعية تزيد مساحتها 5 ملايين فدان، ويستغل اندفاع المياه لتوليد طاقة كهربائية رخيصة ونظيفة تصل إلى 2500 كيلووات/ساعة، توفر سنويا 1500 مليون دولار بأسعار هذه الأيام. عدل المشروع إلى ربط المنخفض بمجرى النيل ليستوعب المياه المهدرة فى المتوسط وإنشاء مجتمعات زراعية وغابات على ضفاف البحيرة.

وتم العدول عنه نهائيا لصالح مشروع السد العالى. ولما أريد إحياؤه مؤخرا وجد أن القناة التى كان سيتكلف إنشاؤها بضع مئات آلاف من الجنيهات أصبحت تتكلف اليوم المليارات مما دفع للعزوف عنه نهائيا. خطوة للأمام ثم خطوتين للخلف فى غياب استراتيجية واضحة للتنمية اللهم إلا ما يحكم الحكومات من نزوات.

المثال الثانى للإدارة بالنزوات نجده فى مشروع ترعة الحمام التى كان من شأن إنشائها فى السبعينيات تحويل الساحل الشمالى إلى مزرعة كبرى للقمح تحقق الاكتفاء الذاتى. بدأ المشروع الوزير حسب الله الكفراوى ثم تم إهداره بعد رحيل الوزير واستبدل به لأسباب غير معلنة مشروع توشكى. المشروع الأخير تشكك الكثيرون من العلماء فى جدواه منهم الراحل رشدى سعيد، وثبت صدق شكوكهم بعد أن أهدرت المليارات من أموال مصر فى صحراء الجنوب الحارقة.

فى السبعينيات من القرن الماضى تم حفر ترعة الحمام بهدف تجميع مياه الصرف الزراعى من الأراضى الواقعة غرب الدلتا لاستزراع حوالى ١٥٠٠٠٠ فدان.

وتوقف المشروع نتيجة لنزوات الحكومات اللاحقة وعدم اكتراثها. فزادت التعديات على جسم الترعة، مما أدى إلى عرقلة وصول المياه إلى المناطق المستهدفة وعرقلة استكمال حفر الترعة إلى مدينة مطروح. ومع تعثر المشروع انتهزت وزارة الإسكان الفرصة وأقامت محطة لتنقية مياه الشرب والمياه العكرة لرى منتجعات الأغنياء بالساحل الشمالى وتوفير مياه الشرب لمطروح. ولكن قيام البدو بتكسير المواسير لرى زراعاتهم أدى إلى حدوث أزمة مياه الشرب بمطروح. وقامت شركات استصلاح الأراضى ببيع الأرض للمواطنين دون عمل المراوى اللازمة من ترعة جف ماؤها وانهارت بنيتها بفعل النزوات التنموية لأصحاب القرار. والقصة طويلة ومحزنة حاصلها أن مشروعاتنا التنموية إما أن تبدأ بنجاح نوقفه دون سبب معلن، وإما أن نتبنى مشروعا فاشلا نبدد فيه أموالنا. ويأتى كل ذلك فى غياب رؤية استراتيجية ورقابة برلمان منتخب ديمقراطيا يحاسب الحكومات على إخفاقاتها وإهدارها للمال العام.

وتأتى فى هذا السياق أيضا تجربة إقامة مدينة السادات فى السبعينيات عند الكيلو ٩٣من طريق القاهرة الإسكندرية. وأنشئت المدينة الكبيرة على مساحة ٥٠٠كم مكتملة البنية الأساسية بهدف أن تصبح عاصمة لمصر، ولكنها تحولت إلى تجمع سكنى صناعى وتم العدول عن نقل مؤسسات الدولة إليها.

ما دفعنى إلى استرجاع هذا التاريخ الطويل من إخفاقات التنمية فى مصر فضيحة غرق شوارع القاهرة الجديدة فى الأمطار الأسبوع الماضى.

غرق طرقات المدن والقرى المصرية فى الماء الوحل بسقوط الأمطار ظاهرة تحدث كل عام وتعتذر عنها الحكومة ثم يعود كل شىء إلى ما كان عليه وزيادة.

و ما أثار هذه الضجة الأخيرة أن الكارثة أصابت مدينة جديدة من مدن الجيل الثالث هى سكن للأثرياء وأصحاب النفوذ والمال والسلطة. وقصة القاهرة الجديدة تستحق أن تروى كمثال حديث على نزوات التنمية فى مصر.

فى عام ١٩٦٤كان عدد سكان مدينة القاهرة حوالى ثلاثة ملايين نسمة. وتوقعت الدولة أن يصل عدد سكان العاصمة عام ٢٠٠٠ إلى عشرين مليون نسمة. وبدلا من بذل الجهود لتنمية الريف لوقف الهجرة إلى العاصمة مع ضبط معدلات المواليد، تعاملت الدولة مع هذه الزيادة المتوقعة كقدر لا يغنى منه حذر. ولجأ الرئيس السادات إلى بيوت خبرة فرنسية لحل هذه المشكلة فاقترحت إنشاء طريق دائرى خارج القاهرة تحيط به تجمعات سكنية ينقل إليها سكان العشوائيات. وتم تقسيم العشوائيات إلى مجموعات على أن تنشأ تجمعات على الطريق الدائرى، ويسكن كل تجمع حوالى ٢��٠٠٠٠ نسمة. وأسندت عمليات إنشاء التجمعات فعلا إلى شركات القطاعين العام والخاص.

ولكن كما يحدث دائما تغير الوزير، وجاء وزير جديد فأوقف المشروع التنموى الطموح بحجة عدم وجود موارد مالية. وبدأ فى بيع أراضى التجمعات للأقارب والمحاسيب والشركات التى استغلت نزوع الوزير للفساد أسوأ استغلال. استجوب البرلمان الوزير وصدرت بإدانته أحكام القضاء.

وهكذا تحولت تجمعات الطريق الدائرى التى عرفت فيما بعد باسم القاهرة الجديدة من وسيلة ناجحة لحل تشوهات العاصمة وتوفير سكن ملائم لفقرائها إلى منتجعات للأثرياء، يبنون بيوتهم على الطرازات الأوروبية والعالمية. اكتشف الأثرياء أن موقع التجمعات متميز يرتفع عن سطح البحر بحوالى ١٨٠ مترا، ويتمتع بطقس نقى معتدل بعيدا عن تلوث القاهرة. فكيف يتركونه للفقراء الذين لا تناسبهم إلا حياة الضنك. ودخلت بعض شركات الاستثمار العقارى الكبرى فى مجال المنافسة والإفساد لتحقيق الكسب السريع. وتكونت رأسمالية المحاسيب كما أشار إلى ذلك الاقتصادى العظيم الراحل محمود عبدالفضيل.

هل عندما أقدمت حكومة الأثرياء على نزع القاهرة الجديدة من أيدى الفقراء المتوحشين وتقديمها هدية لسراة القوم، هل عندما فعلت ذلك أغفلت إقامة بنية تحتية قوية وشبكات حديثة لرفع المياه وصرف الأمطار؟، هل كان شاغل المسؤولين مجرد تمهيد الأرض وشق الطرق وبيعها بسعر بخس وقبض العمولات من الشركات سرا وعلانية؟.

موقع هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة على الإنترنت يقول غير ذلك. فهو يشير إلى قرار رئيس الجمهورية ( مبارك) رقم ١٩١ لسنة ٢٠٠٠بإنشاء المدينة، وأن مساحتها حوالى ٨٦٠٠٠ فدان، وأنها مزودة بكافة الخدمات والمرافق وشبكات البنية التحتية. ولكن الواقع كشف عن أن الشوارع الرئيسية بالمدينة تغرق مع سقوط الأمطار، وعن أن محاضر جلسات المحاكم والنيابات ومضابط مجلس الشعب تكشف عن فضائح فساد.

غرق الأثرياء فى شوارع مدينتهم الجديدة بينما مازال الفقراء يمارسون حياتهم البائسة فى عشوائياتهم.

وما زالت فقرات مسلسل التنمية بالنزوات لم تنته بعد وتدفع ثمنها مصر.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف