التحرير
نبيل عبد الفتاح
أزمات الدولة الوطنية في إقليم مضطرب ومتصدع
حالة الاضطراب والتفتت والتصدع التى تجتاح الإقليم العربى، عكست أزمات الدولة الوطنية فى المنطقة العربية، ولا تزال بعض التوصيفات لهذه الأزمة تبدو جزئية، وبرانية أكثر من كونها تحليلا معمقا للجذور التاريخية لهذه الأزمات، وتفاقماتها واحتقاناتها الملتهبة.

نستطيع القول إن الدولة الوطنية لم تستكمل تاريخيا شروط إنتاجها على الصعد الاجتماعية والسياسية والثقافية، ومن ثم ظلت محمولة على الهشاشة البنيانية والضعف فى الوعى الاجتماعى لشرائح اجتماعية عديدة، ومن ثم تبدو الدولة الوطنية فى بعض المجتمعات العربية وكأنها قوية ومستقرة من خلال الآلة الأمنية والعسكرية، بينما النظرة التحليلية تشير إلى الوهن الهيكلى لأجهزة الدولة، من هنا انفجرت الأوضاع الداخلية فى عديد من البلدان العربية فى أعقاب ما سمى مجازا بالربيع العربى كالأوضاع فى سوريا والعراق واليمن وليبيا، وفى بلدان أخرى على نحو أقل حدة من هذه البلدان التى استعرت فيها الحروب الأهلية، ولا تزال أوارها مستعلة.
إن نظرة على أوضاع الدولة الوطنية واختلالاتها البنائية، تشير إلى ما يلى:
1- أن الدولة الوطنية فى غالب البلدان العربية –باستثناء مصر والمغرب- هى وريثة هياكل الحكم الاستعمارى، التى دارت بين نمطين من الحكم الداخلى للمستعمرات: الأول هو الحكم الاستعمارى المباشر بواسطة سلطات الاحتلال الفرنسى، وهو ما تم فى الجزائر وتونس، وسوريا ولبنان. النمط الثانى: هو الحكم غير المباشر الذى استخدمه الاستعمار البريطانى فى مصر والسودان والعراق، وهو الحكم عبر بعض النخب المحلية الداخلية.
الاستثناءان المصرى والمغربى، يدوران حول دولة محمد على وإسماعيل باشا وتطورها إلى دولة/ أمة رغم خضوع مصر للاستعمار البريطانى، فى ظل نظام شبه ليبرالى، ونخبة حديثة وبرلمان، وحكومة مسئولة أمامه وهياكل وأجهزة دولتيه، والأهم تركيبة بيروقراطية راسخة القدم وتشكل أمة مصرية حديثة. فى الحالة المغربية يكمن الاستثناء فى دولة المخزن التاريخى.

غالب الدول العربية ما بعد الاستقلال ورثت هياكل الحكم أثناء مرحلة الاستعمار ومعها نخب من الأعيان المحليين من كبار التجار، وكبار ملاك الأراضى الزراعية، وبعض القادة ممن شاركوا فى الحركات الوطنية المعادية للاستعمار الغربى. من ثم اعتمدت عملية بناء دولة ما بعد الاستقلال على هذا الموروث من الهياكل، لكن مع ملاحظة أن قادة الاستقلال وما بعد فرضوا بعض انتماءاتهم الاجتماعية والمذهبية والعرقية والمناطقية والقومية على عملية بناء الدولة، ومن ثم انحازوا إلى هذه الانتماءات الأولية أو الولائية فى اختيارات قادة الحكم، أو فى عمليات التنمية التى تمحورت حول بعض المناطق التى انتمى إليها بعض قادة الاستقلال وما بعد، مع إقصاءات وتهميش لمناطق أخرى خذ على سبيل المثال، تنمية مناطق الساحل التونسى على حساب تهميش مناطق الوسط والجنوب التونسى، والخرطوم وأم درمان فى السودان مع تهميش تنموى لجنوب السودان قبل استقلاله، ومناطق شرق وغرب السودان، من ناحية أخرى تنمية بعض مناطق الجبل فى لبنان على حساب تنمية جنوب لبنان فى مرحلة الستينيات، فى ظل حكم الرئيس اللبنانى الأسبق اللواء فؤاد شهاب.

ما سبق محض أمثلة على التحيزات الأولية/ المناطقية على أولويات الاختيارات التنموية لبعض قادة دولة ما بعد الاستقلال، وغياب النظرة التكاملية لخطط التنمية فى إطار دولة ما بعد الاستقلال فى تونس والسودان ولبنان، وهذا النمط من الخيارات التنموية الجزئية لم يكن قصرًا على هذه الدول العربية، وإنما فى غالب دولة ما بعد الاستقلال.

2- أحد أخطر أسباب الهشاشة البنيانية لدولة ما بعد الاستقلال، هى اختلال سياسة، واستراتيجيات التكامل الوطنى الداخلى، الذى اعتمد فى غالب البلدان العربية على نمط استراتيجيات بوتقة الصهر الداخلى لكل المكونات الأولية للمجتمع، من خلال أدوات القهر والجبر "المشروع" بحوزة الدولة، أى من خلال استخدام أجهزة القمع الرسمى، بقوة الحديد والنار والجيش والشرطة فى فرض وحدة وطنية بالقوة، لا شك أن هذه الاستراتيجية كانت تبدو لبعضهم ناجحة وناجزة، حيث لا تنظر هذه الاستراتيجية إلى الأسس التكوينية العرقية والدينية والمذهبية والقومية والمناطقية، ولم تهتم بضرورات تمثيل هذه المكونات فى هياكل الدولة، وفى ضرورة مشاركتها وفق القواعد والآليات السياسية للمشاركة المجتمعية، وفى النظام السياسى، ومن ثم تنشيط التفاعلات الاجتماعية والسياسية والثقافية بين هذه المجموعات التكوينية، ومن ثم تبلور وإنتاج موحدات وطنية جامعة تتجاوز الانتماءات الأولية للمذهب، والمنطقة، والقبيلة، والعشيرة، والدين والمذهب والقومية والعرق. استراتيجية بوتقة الصهر التى سادت بعد الاستقلال فى مجتمعات انقسامية داخلية Fragmented societies، لم تستطع إلا توليد إجماع وطنى ظاهرى مؤسس على قوة القهر المادى والإيديولوجى، لا سيما فى بعض النظم التى أسست على انقلابات عسكرية، وعلى الحزب السياسى الواحد الحاكم الذى شكل أحد أدوات السيطرة الإيديولوجية والرمزية، حتى فى ظل بعض الجبهات الوطنية كالحالة السورية، التى يسيطر عليها حزب البعث السورى، ولم تكن أحزاب الجبهة إلا كيانات هشة لا تأثير لها فى الحياة السياسية.

استراتيجية بوتقة الصهر إقصائية واستبعادية لبعض المكونات الاجتماعية الأولية لصالح بعضها الآخر الذى ينتمى إليه قادة الدولة/ النظام، على نحو ما رأينا تاريخيا فى الحالة السودانية، حيث سيطرت قبائل الوسط النيلى ذات الأصول العربية على غيرها من المكونات الأخرى فى الجنوب وشرق وغرب السودان فى إقليم دارفور.

4- اختزال الدولة الوطنية فى النظام الشمولى والتسلطى، واختزال النظام فى قيادته -رئيس الدولة والحزب- وحوله بعض مواقع القوة الأخرى. هذه الظاهرة استمرت منذ بناء دولة الاستقلال الوطنية وإلى الآن فى بعض البلدان العربية، وكشفت عن هشاشة عمليات بناء الدولة، وكيف اختزلت الدولة فى الجيوش والأجهزة الأمنية، وفى رئيس هذا البلد أو ذاك ومعه بعض مراكز القوى حوله، كما كانت الأوضاع فى سوريا، والعراق، وليبيا، وإلى حد ما اليمن فى إطار بعض التوازنات القبلية.

هذا النمط أدى إلى "شخصنة الدولة الوطنية"، ومن ثم فقدت الدولة وأجهزتها طابعها الرمزى والسياسى فى الوعى الاجتماعى لشرائح اجتماعية واسعة، بوصف الدولة كائنا متعاليا فوق كل الأجهزة والمكونات الأساسية المشكلة لها، وفوق أركانها المعروفة من الأرض الإقليم والشعب والسيادة، وكذلك الدولة كائن رمزى فوق أجهزتها كالجيش والشرطة والبيروقراطية أو فوق سلطاتها الثلاث القضائية والتنفيذية والتشريعية، النزعة لاختزال الدولة فى أحد أركانها، أو أجهزتها، أو فى شخص رئيسها، أو سلطة من سلطتها، تبدو شائعة فى الوعى العام المشوش والمختلط فى إطار عديد من الشرائح الاجتماعية فى المجتمعات العربية.
5- اختلال سياسات توزيع الدخل القومى بين القلة، وبين القطاعات الاجتماعية الواسعة: لا شك أن هذا الخلل البنيوى فى سياسات توزيع الدخل القومى، واقتصار ثمار التنمية على نخبة من الأثرياء، سواء من ذوى السلطة والنفوذ السياسى فى نخبة الحكم، أو نخبة رجال الأعمال فى أعقاب ما بعد الإصلاح الاقتصادى والتحول إلى المشروع الخاص وحرية السوق، حيث ساهم الخلل فى التوزيع فى تنشيط عوامل عدم استقرار الدولة الوطنية، فى مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا والعراق، وترافق الخلل التوزيعى فى الدخل مع انتشار الفساد الهيكلى للنظم السياسية، وتمدد أشكال الفساد فى الوظيفة العامة، وفى الصفقات التى تجريها الحكومات مع العالم الخارجى، وفى أشكال من الاحتكار لبعض السلع المستوردة. إنها أنماط من الفساد تجد أسبابها فى عمل النخب السياسية، ونمط السياسة السائد، وغياب الشفافية والمساءلة، ومن هنا انتشرت ظواهر الفساد على عديد من مستويات أجهزة الدولة، وباتت جزءًا من نشاطها اليومى.

6- أزمة دولة القانون فى العالم العربى، من حيث نمط إنتاج القوانين وتحيزها الاجتماعى لبعض المصالح الاجتماعية دون بعضها الآخر، وغالبا ما تكون مصلحة القوى الاجتماعية المسيطرة سياسيًا، ومن ثم لا تعبر هذه القوانين عن التوازنات فى المصالح الاجتماعية المتنافسة والمتصارعة. الفجوات بين القوانين المختلفة وبين مصالح غالبية المواطنين يؤدى إلى أزمات فى تطبيقه إلا من خلال القوة والقسر والإرغام، وليس من خلال الرضا العام.
من ناحية أخرى استخدام القانون كأداة من أدوات القمع من خلال القيود المفروضة على الحريات العامة والشخصية، وإغلاق المجال العام السياسى أو حصاره بمجموعة من القيود الأمنية والإدارية والقانونية.

7- أزمة الوحدة الوطنية بين المكونات الأساسية الأولية فى المجتمعات الأنقسامية العربية المؤسسة على التعدد الطائفى والدينى والمذهبى والمناطقى والعرقى والقومى، وذلك من خلال سيطرة نخب سياسية متحيزة لأصولها الأولية مع إقصاءات لهذه المكونات أو بعضها.
من ناحية أخرى غياب المشاركة السياسية أو هامشية مؤسساتها أدى إلى غياب تفاعلات سياسية تؤدى إلى إنتاج موحدات فوق أولية أو بالأحرى موحدات وطنية جامعة من هنا نشأت الدولة على انقسامات داخلية دونما سياسة للدمج أو الاندماج الوطنى، الذى يؤسس لوحدة وطنية أصيلة فى بعض هذه المجتمعات والدول الوطنية، من هنا ظهرت هشاشتها، وانهار بعضها فى أعقاب الاضطراب الإقليمى وتصدعاته الكاشفة عن ضعفها الهيكلى التى سرعان ما تداعى فيما بعد الربيع العربى.

















تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف