بوابة الشروق
بسمة عبد العزيز
أشبار من المياه
فى العادة؛ تمثل الحكم الشعبية والأقوال المأثورة مجازًا، تمتلئ بالتشبيهات والاستعارات والكنايات، التى تعكس مواقف متكررة، وتلخص خبرات حياتية مألوفة، فى سهولة ويسر. يخترعها البسطاء ويبدعون فيها، ويصكُّها المفكرون وأصحاب الحكمة والتجربة العميقة. يشترك الجميع فى صياغتها، ثم استخدامها من بعد، لا تحتاج إلى عبقرية ومكانة علمية لفهمها، ولا إلى معرفة خاصة لإدراك مغزاها؛ إلا فيما ندر.

***
جرى العرف عند الأطباء المختصين بمداواة النفس وعللها، أن يطرحوا على المريض سؤالًا أو أكثر، يدور حول معنى أمثولة شهيرة، على سبيل المثال: «على قد لحافك مد رجليك«. الشخص الذى يفكر بصورة طبيعية، القادر على استخلاص المعنى، وتجريد المضمون، يجيب بما لا علاقة له بالأرجل أو الأغطية، يتحدث مثلا عن التبذير فى غياب الوفرة المادية، وعن التصرف فى حدود ما يملك. ثمة من لا يملكون القدرة على الوصول إلى المعنى المبطن بسبب علة فى العقل؛ فيتحدثون عند الفحص عن اللحاف والبرد وتغطية الساقين.

***
بعض الأحيان تتحقق الأمثلة والحكم حرفًا على أرض الواقع، بحيث نرى مفرداتها ونلمسها، مثلما صيغت فى صورتها الأولى، بما لا يدع مجالًا لتأويل، أو خلاف حول معناها ومدى انطباقها على موقف نواجهه.
ثمة مأثور شهير، يصف الشخص الذى ارتبك أمام مشكلة صادفته، وبات عاجزًا عن التصرف حيالها بأنه: «غرق فى شبر ميه«. شبر المياه هنا كناية عن تفاهة المشكلة وضآلتها، فهو لا يغرق أحدًا فى الأحوال الطبيعية، ولا يقف الإنسان أمامه حائرًا، بلا حول ولا قوة، إلا إذا كان العيب فى ذاته وكفاءته وقدرته على تسيير حياته.

***

خطر شبر المياه بأذهان كثيرين، حين تحقق الغرق فعلًا لا مجازًا، خلال الأيام الماضية. منحتنا السماء من عطاياها، فارتعبنا، وجادت علينا بالأمطار التى شحت فى الفترات الماضية، فغرقنا وتوسلنا النجدة وهرعنا إلى طلب الغوث. غرقنا فى أشبار المياه القليلة التى توصف إن أتت بالمنحة الإلهية، والتى يقرن بحضورها الخير الوفير.

***

اعتدنا أن تغرق المناطق الفقيرة فى أشبار المياه المعدودات ما زارتها الأمطار، وأن تصبح المناطق العشوائية فى حال من البؤس والعجز ما واجهها البرق والرعد، اعتدنا أن يصرخ الفقراء من غياب الخدمات ومن انهيار شبكات الصرف وعزوف الحكومات المتعاقبة عن اتخاذ ما يكفل لهم الحد الأدنى من شروط الحياة.
اعتدنا أيضًا أن نسمع من هنا وهناك أعذارًا ومبررات، بعضها مبكى، وبعضها الآخر مضحك؛ لكنه كالمأثور العميق: «ضحك كالبكاء«.

***

الجديد هذه المرة، أن الغرق فى شبر المياه، واقعًا لا شعرًا أو بلاغة، قد امتد إلى الأحياء الثرية والمناطق المترفة، حديثة التشييد فاخرة البناء، لتعلن من الفشل ما لم يدر من قبل بالرئوس وما لم يرد على الخيال.
الغرق الحقيقى، لا يحتاج إلى عاقل كى يراه ويفهمه ويدرك معناه؛ إذ هو ماثل أمامنا بكامل مفرداته، والعلة الظاهرة كما قرص الشمس، لا تحتاج فراسة ومهارة لاكتشافها؛ إذ هى كامنة فينا، حاضرة بأركانها جميع، لا تحتاج شاهدًا ولا دليلًا. ذاك تشخيص لا يتطلب طبيبًا، بل أناسًا لا تزال فيهم إرادة وهمة لاستحقاق الحياة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف