الوطن
حسن ابو طالب
«ترامب» والنووى الإيرانى.. «اللعب بالنار»
لا أحد يعرف تماماً ما الذى يمكن أن يحدث إذا نفّذ الرئيس «ترامب» تهديده فى 18 مايو المقبل بخروج بلاده من الالتزام بالاتفاق النووى الإيرانى. الاحتمالات مفتوحة على الأسوأ. صحيح أن هذا الإلغاء سيكون أمريكياً فقط، ولكن تأثيره سيمتد إلى باقى الأطراف المعنية حتى ولو أعلنت التزامها، خاصة الدول الكبرى كروسيا والصين والدول الأوروبية. وقبل يومين أعلنت كل من موسكو وبكين أنهما ستحولان دون إلغاء الاتفاق المذكور باعتباره اتفاقاً دولياً صادراً به قرار من مجلس الأمن، وبالتالى فهو مُلزم للكافة حتى ولو أعلنوا غير ذلك.

الرئيس الفرنسى «ماكرون»، وقبل أن يلتقى نظيره الأمريكى فى واشنطن اليوم الأربعاء، صرح بأنه سيعمل على إقناع مضيفه بالإبقاء على الاتفاق لأنه لا توجد «الخطة ب»، وبما يحول دون الإضرار بنظام منع الانتشار النووى. وهنا تكمن المعضلة الكبرى أمام الأوروبيين وكل من روسيا والصين. إنها مشكلة غياب البدائل. ويبدو أن الرئيس الفرنسى لديه قناعة ذاتيه بأنه قادر على إقناع الرئيس ترامب بالاستمرار فى الاتفاق، على أن يتم تعويض ذلك بالضغط على إيران بأن تلتزم بوقف إنتاج الصواريخ الباليستكية ذات المديات الطويلة التى تخشاها إسرائيل المحببة إلى قلب «ترامب»، وكان الرئيس الإيرانى حسن روحانى فى موقف سابق قال بأن بلاده ستستمر فى إنتاج الأسلحة دون أن تحصل على إذن من أحد.

السؤال الكبير هو: ما الذى يمكن أن يحدث، وما الذى يمتلكه الأوروبيون من أوراق ضغط، وماذا تريد واشنطن تحديداً؟ الإجابة ببساطة: كل شىء مجهول، مقابل معلوم وحيد وهو أن إيران لديها موقف صارم يستند إلى ثلاثة مبادئ متكاملة، أولها أن طهران لا تقبل بأية تغييرات فى الاتفاق، وثانيها أنه فى حالة إلغاء الاتفاق من جانب الولايات المتحدة فإن إيران لن تتمسك به مع الأوروبيين فقط، ثالثاً أن هناك استعدادات، سواء من جانب الوكالة الإيرانية للطاقة الذرية ومؤسسات أخرى، للتعامل مع إلغاء الاتفاق فوراً. البند الأخير تحديداً أوضحه وزير الخارجية الإيرانى محمد جواد ظريف بأن بلاده ستكون فى حِل من القيود الخاصة بتخصيب اليورانيوم، ولكنها لن تصنع قنبلة نووية. مضيفاً أن نتائج الإلغاء ستكون «غير لطيفة بالنسبة للأمريكيين»، وهو تلميح بأن مصالح أمريكا فى سوريا أو فى غيرها لن تكون فى مأمن من تداعيات، غالباً ستكون سلبية.

الأزمة على النحو السابق ذكره تتلخص فى كلمتين: «اللعب النار»، ومن ثم دخول المنطقة الشرق أوسطية ككل فى حقبة جديدة من التوترات والمجهول. العامل الأساسى هنا هو موقف الرئيس ترامب الذى يفتقد تماماً إلى الشعور بالمسئولية تجاه الأمن الدولى وأبعاده الإقليمية، ويرى أن من حق الولايات المتحدة تعديل الاتفاقات الدولية ما دامت لا تعجبها، وأن شروطها يجب أن تكون مُجابة. والمعضلة أن الرئيس ترامب يطالب بتعديل الاتفاق ليستمر ملتزماً به، ولكنه لا يفصح عن تلك التعديلات المطلوبة ويترك لكل جهة أن تتكهن بما يدور فى خلده هو. الأمر على هذا النحو يبدو كنوع من التفاوض غير الرسمى، مع ترك كل الخيارات مفتوحة، إذ يمكن فى حال حدوث تغييرات لغوية طفيفة فى بعض بنود الاتفاق لا تمس جوهره، إذا ما وافقت إيران على ذلك، أن يعتبرها الرئيس «ترامب» انتصاراً مدوياً له، وأنه حقق ما أعلنه من قبل، لكن هذا الخيار ليس مطروحاً لطهران ولا لروسيا والصين، ولا تملك أوروبا مجتمعة أن تحققه لحفظ ماء وجه الرئيس الأمريكى. وتلك معضلة أخرى.

وبينما تعترف أوروبا، وهم الحلفاء الأقرب إلى الولايات المتحدة، بأن ليس لديهم الخطة البديلة، نرى طهران لديها تصورات وسيناريوهات مختلفة للتعامل مع النتائج المنتظرة. هنا الفارق بين التهور وبين التحسب للأسوأ، مع التذكرة بأن إيران لم يعد يرهبها الحديث عن عقوبات جديدة، أو ضغوط سياسية أو اقتصادية أو حتى عسكرية. هذا الزمن بالنسبة لإيران قد ولى وانتهى أثره.

نُذكّر بأن اتفاق البرنامج النووى الإيرانى كان حصيلة عمل ووساطات ومناقشات فنية معقدة وحوارات سياسية ومفاوضات استُخدمت فيها كل أنواع الضغوط والمغريات، واستمرت 12 عاماً تخللتها بعض فترات توقف طويلة، ولكنها انتهت بهذا الاتفاق الذى عكس توازن قوة على الأرض بين إيران وحلفائها وبين القوى الغربية، وهو توازن ما زال قائماً فى توجهاته الأساسية، من ثم فإن تصور الولايات المتحدة، وتحديداً رئيسها ترامب، أنها تأمر بتغيير الاتفاق وأن إيران سوف تستجيب خوفاً من العواقب، هو تصور خائب وليس له أى أساس واقعى، لا سيما أن السياسة الأمريكية فى مجمل الشرق الأوسط تتسم بالتخبط والتراجع، بل والهزائم، وما يحدث مع الجماعات المسلحة فى سوريا التى كانت تحظى بدعم أمريكى سابقاً يكشف بعضاً من جوانب التراجع الأمريكى فى الشرق الأوسط. ويُضاف إلى ذلك ما يعلنه الرئيس «ترامب» نفسه حول رغبته فى إنهاء مهمة الجنود الأمريكيين فى سوريا، غالباً لإدراكه أنهم لا يستطيعون تغيير الوقائع الجديدة على الأرض السورية. بشكل أو بآخر فإن هؤلاء الجنود الأمريكيين سيعدون هدفاً مباشراً لحلفاء إيران إذا ما أفلتت الأمور من أيدى أصحابها. بعدها قد يجد الرئيس ترامب نفسه أمام أحد خيارين أحلاهما مر وعلقم؛ إما إرسال مزيد من القوات الأمريكية إلى سوريا والدخول فى معارك مفتوحة هناك مع الجيش السورى والجماعات الموالية لإيران، وإما الانسحاب الكامل من سوريا تجنباً للخسائر البشرية المتوقعة. وفى كلا الأمرين ثمن كبير لا بد من دفعه، على الأقل من مصداقية واشنطن كقوة عظمى.

«اللعب بالنار» هو مقدمة لحرائق مرعبة. لن يتوقف اشتعالها عند سوريا فقط. قد ترى إسرائيل أن إلغاء الرئيس ترامب للاتفاق النووى الإيرانى يعنى تفويضاً غير معلن لها بأن توجه ضربات عسكرية للمصالح الإيرانية فى سوريا ولبنان، وربما أيضاً لبعض مرافق البرنامج النووى الإيرانى نفسه. ستكون الحجة الرائجة آنذاك أن إيران عادت مرة أخرى لتخصيب اليورانيوم وأنها ستصنع قنبلة نووية، وأنها ستدمر إسرائيل، وباقى المعزوفة الدعائية التى لم تتوقف يوماً. النتائج المتصورة من مثل هذا السلوك الإسرائيلى الأرعن هى حرب إقليمية واسعة المدى. وبينما تفتقر إسرائيل إلى العمق الجغرافى والسكانى، تتمتع إيران بعمق سكانى وجغرافى يتجاوز حدودها الجغرافية. وفى تلك المقارنة بعض من عناصر الانتصار المنتظر.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف