الأهرام
صلاح سالم
أصالة أم بداوة؟
ثمة ملمح مشترك بين الأديان التوحيدية الثلاثة، كونها تنبت من الجذر الاعتقادى نفسه وترنو إلى المطلق ذاته، يتمثل فى التيارات الأصولية الكامنة فيها والتى تقدم فهما انتقائيا لهذا الدين أو ذاك يختزله فى تفسير أحادي، رغم تاريخه الطويل الذى ينطوى على تجارب متعددة، ويستبطن نماذج متناقضة، لكل منها سياق ودلالة، تسعى القراءة الأصولية إلى محو كليهما ليسهل لها إعادة تفسير معتقدها فى الاتجاه الذى تريد، فالأصوليون جميعا يدَّعون قدرتهم (وحدهم) على استعادة الجوهر المؤسس لمعتقداتهم، وإعادة تجسيد نموذج الحياة الأصلى الذى انطلق منه، وهو النموذج المفترض أن يعود إليه أتباع هذا الدين دوما لاستعادة انطلاقتهم الفتية نحو غاياتهم الكبري. وهكذا تبدو القراءة الأصولية للنصوص الدينية مستقبلية فى جوهرها، وإن بدت ماضوية فى ظاهرها، فالأصولى عينه على المستقبل، أما الماضى فهو مجرد وسيلة، مخزن لأفكار ومقولات جاهزة يستطيع الاستعارة من بينها، ومخبأ لسيوف ورماح يستطيع السحب منها ليرمى بها مخالفيه في: الاعتقاد، الطائفة، المذهب.

تتجلى هذه الانتقائية بوضوح لدى الأصوليين المسلمين، الذين لا يكادون يجدون فى القرآن الكريم سوى آيات الحاكمية التى يعيدون تفسيرها وتأويلها على النحو الذى يمنحهم حق إصدار الأحكام على إيمان العموم، كذريعة لإباحة دمائهم وأعراضهم وأموالهم على نحو ما نري. أو آيات الجهاد التى تبرر لهم ممارسة العنف ضد غير المسلمين، متجاهلين ليس فقط أسباب نزول الآيات، واختلاف سياقاتها، والعلاقة التى تقوم بينها، بل وأيضا الروح العامة للنص القرآني، المؤكدة على غايات الله فى الوجود، و على رأسها البناء والعمران بمقتضى عهد الاستخلاف الإلهى للإنسان، الذى يضم جميع البشر وليس معتنقى دين بذاته، بل ويرى الإسلام دينا عاما ينضوى تحت مظلته جميع المؤمنين بالرسل والأنبياء السابقين، ما يجعل من السلام والتعاون بين الناس قيمة عليا.

وفى المقابل يُهمل الأصوليون جل القيم الإنسانية التى صنعت التجربة الإسلامية الأولى كحضارة شاهقة ودولة فتية، انطلقتا معا من يثرب التى صارت شاهدا على أكثر نماذج التفاعل مثالية فى التاريخ الإنساني، ممثلة فى عهد المؤاخاة الذى أفضى إلى اقتسام البيوت والأموال والزوجات بين المهاجرين والأنصار، وهو أمر يبدو مستحيلا بحسب مقتضيات الفطرة الإنسانية فى حالتها العادية، ولكنه صار ممكنا فقط حسب فطرة جديدة (سامية) ذات خصائص استثنائية صاغتها الفورة الروحية الطاغية لدين جديد كان بمثابة عصر تحرير حقيقى للإنسانية.

وهكذا تتبدى الهوة الساحقة بين سلوك نبى كان رسولا مبلغا لدعوة دينية، وحاكما مؤسسا لدولة وليدة، يحنو على الصغير والكبير، ويأمر بالإحسان إلى أهل الكتاب من اليهود والمسيحيين، يعاهدهم ويحترم عهوده معهم رغم قدرته على إبادتهم. كما كان يحترم الروح الإنسانية حتى فى حالة الحرب مع الأعداء، كما تؤكد السنن والأخبار، وبين أمراء الحرب المعاصرين الذين اختزلوا الإسلام فى مفهوم الجهاد، ثم اختزلوا مفهوم الجهاد فى مجرد الكفاح البدنى والقتال العسكري، ثم نزعوا عن هذا القتال نفسه كل أخلاقية متمدينة ليصير عملا وحشيا، يمارسونه فى غير موضعه، ويؤذون به غير المعنيين به، وينتهكون من خلاله كل القواعد التى وضعها الشرع له، فيزنون بالسبايا من أبناء الوطن، ويقتلون الشيوخ والأطفال، ويريقون دماء الأسري، ويمثلون بالجثث، وغير ذلك مما يجسد الوحشية فى أقصى تجسيد لها، والهمجية فى أبلغ صورها. ناهيك عن مظاهر السلوك النفعى والانتهازى لدى مدعى الإسلام السياسى من بينهم، إذ يختزلون السياسة فى أقبح وجوهها، وهو القدرة على المراوغة والكذب وخداع الآخرين، وما يصاحب ذلك من فحش القول أحيانا وازدراء الوطن أحيانا أخري، والتعالى على المواطنين الآخرين من شركاء العقيدة والغلظة مع المخالفين فيها، أحايين كثيرة.

وهكذا يتأكد لدينا أن عموم المظاهر التى تمارس تحت لافتة الأصولية اليوم لا يُمكن أن تنسب إليها فى معناها الجوهرى كحاضنة للقيم الجوهرية والأسس التكوينية، التى صاغت التجربة الإسلامية الأولي، لمجرد تغطيتها بنمط لباس معين أو مظاهر سلوك خارجية تشبه تلك التى كانت سائدة عند بدايتها، بل يمكن نسبتها جوهريا إلى الروح البدائية (الجاهلية) السابقة على الإسلام، حيث ساد ذلك اللباس وتلك المظاهر لدى أعداء الإسلام الأوائل الذين حاربوه بوحشية قبل انتصاره عليهم، أى إلى الأشكال والقوالب المحيطة بالتجربة الإسلامية الأولى التى يدعون انتسابهم إليها وليس إلى لباب التجربة وجوهرها الباطن نفسه. والمؤكد هو أن تلك الأشكال والقوالب محض قشور لازمت لحظة انبثاق العقيدة فى التاريخ، أما اللباب الذى صنع التجربة ذاتها، بكل تمدنها وجاذبيتها وقدرتها على الذيوع والانتشار فهو القيم الأخلاقية الرفيعة والنزعة الإنسانية التحررية الكامنة فى العقيدة نفسها. وإذا كان جوهر التجربة الأولى قد نهض على الإيثار والتضحية والفداء، والتسامى على الضغائن والترفع عن الصغائر، فإن الأصولية الحق تعنى استعادة هذه القيم الآن، وبثها فى القوالب التاريخية المعاصرة التى نحيا فيها وبها. أما رفض هذه القيم الجوهرية، واستعارة الأشكال والقوالب المرتبطين بها فليس إلا نزوعا إلى (البدائية) كحالة حضارية راكدة (إنسانيا)، أو إلى الجاهلية كحالة تاريخية مريضة (عربيا)، ومن ثم يمكن الادعاء بأن نمط التدين العربى المعاصر، المفضى إلى تطرف وعنف يغطيان على خواء باطنى يزخر بالطمع والأنانية، إنما يمثل نقيضا لمفهوم الأصولية الحق. إنه بالتحديد مجرد روح بدائية تورطت فى استدعاء أشكال للحياة صارت متقادمة بفعل حركة التاريخ التى لم تتوقف أبدا عن إنتاج الجديد، بينما فشلت فى استدعاء الجواهر الخالدة، المتعالية على هذا التاريخ، القادرة دوما على تأسيس الضمير وعمارة الروح، رغم أن الدين التوحيدي، عموما، يمثل محاولة للخروج من الوعى البدائى الذى ارتبط بالحلول والوثنية، وأن الإسلام خصوصا، ذو جوهر تقدمي، ينحاز للعقل الإنساني، علة عهد الاستخلاف المفضى إلى العمران، كما ينحاز للحرية الإنسانية، علة الاختيار المفضى إلى الإيمان أو الكفر. فمن دون كائن عاقل حر، قادر على طبع أثره فى الوجود الكوني، لا يكون ثمة معنى ممكن للإيمان التوحيدي، أو قيمة حقيقية للوجود الإنساني.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف