الأهرام
نبيل عمر
عبارة الدكتورة إيناس وعنصرية السيدة العجوز
استوقفتني عبارة قالتها الدكتورة إيناس عبد الدايم وزيرة الثقافة: «صحوة ثقافية جديدة تسعي فيها قوي مصر الناعمة لاستعادة دورها المحلي والعربي والدولي»، وتساءلت مع نفسي: هل يمكن أن تستعيد مصر قوتها الناعمة بكامل طاقاتها، القوة القادرة علي فرد أجنحتها علي محيطها وعالمها كما كانت طول تاريخها؟

والقوة الناعمة هي تراث مصر وماتملكه فعليا لبعث الأمل والتفاؤل والتسامح والتقدم وصناعة حضارة حديثة في مواجهة تيار الإحباط والإرهاب والتخلف والأفكار السلفية التي تلوي عنق المجتمع لينظر خلفه دائما، ويتحسر علي ماضٍ يستحيل استعادته، لأن ما فات مات كما يعلمنا التاريخ، ولا يحيي الموتي إلا الله في توقيت لا يعلمه إلا هو.

ومهرجانات الفن من سينما ومسرح وأدب وشعر وموسيقي وغناء ورقص هي لبنة صلدة في بناء القوة الناعمة، هي حائط صد متقدم ضد تتار التشدد في منطقة تكاد تقع بكاملها في قبضته القبيحة، والأهم أنها حالة إبداع واكتشاف وتفكير وبهجة تشكل وجدان الأمة وتربطه بعصره .

وقطعا نصدق الدكتورة إيناس في قدرة مصر علي استرداد عافيتها الناعمة، فمصر ليست مجرد بلد عادي، وإنما خلاصة تجربة إنسانية ممتدة منذ وعي الإنسان ببيئته واكتشف النار وعرف الكتابة، لكننا نعتبر كلمتها في افتتاح مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة تعهدا رسميا أمام جمع غفير من أرجاء المعمورة بأن الدولة سوف تعمل بأقصي جهدها علي ذلك، خاصة ونحن في عالم لم تعد فيه للمسافات والحدود قيمة، عالم وحدته المعرفة الحديثة بالإكراه.

وقد لا تكون مصادفة أن يعرض المهرجان فيلم «الراكب الأسود» في حفل الافتتاح، وهو ينتمي إلي العالم الجديد، مع أنه ليس فيلما جديدا، وقد نستغرب أن يستهل مهرجان دولي برنامجه بفيلم يعود تاريخ إنتاجه إلي أوائل التسعينيات، لكن تزول الدهشة حين نعرف أنه «مهرجان الذاكرة»، أي ما حفل به من أعمال علي مدي تسع عشرة دورة سابقة، علاوة علي الجديد منها.

وفيلم «الراكب الأسود» حاصل علي جائزة أوسكار أحسن فيلم روائي قصير في عام 1994، وهو فعلا فيلم بديع أخرجه «بيبي دانكارت» بحساسية مفرطة وخفة دم فائقة.

الفيلم يحكي عن راكب أسود في ترام بمدينة برلين وما تعرض له من انتهاك عنصري علي لسان سيدة عجوز، عالم جديد قادم يحاول عالم قديم متهالك أن يمنعه أو يوقفه أو يسد عليه الطريق. جمال الفيلم الذي لا تتعدي مدته 12 دقيقة في تفاصيله ولغته.. فالمخرج من أول لقطة وهو يستعرض مدينة برلين الكبيرة من فوق خط الترام يربط بين المكان الثابت والترام المتحرك الذي يجتمع فيه أبطال الفيلم، وهو اختيار موفق جدا وشديد الذكاء، الترام يستبدل ركابه في كل محطة، والعالم يغير أفكاره كل فترة.

ويجمع المخرج ركابه معا بحرفية واضحة، نتعرف علي وجوههم في مشاهد سريعة جدا قبل أن يركبوا الترام، ولم يتوقف إلا عند الشخص الذي يفشل في تشغيل «دراجته البخارية»، كنموذج من أسباب ركوب الترام.

حتي الراكب الأسود فكان يحادث صديقا له علي جانب المحطة قبل أن يلحق بالترام في آخر لحظة، ويقف أمام سيدة عجوز يسألها: هل المقعد الذي بجوارك خال؟

فتنظر إليه باشمئزاز ولا ترد..فالمخرج يعلن عن صدام قادم بين مواطن مهاجر ومواطنة ألمانية!

وبالفعل يقع الصدام فورا..صدام بكلمات مهينة تنتهك إنسانية الراكب الأسود الصامت كتمثال دون أي رد فعل طول الفيلم، ولو لم يسألها بالألمانية للجلوس علي المقعد لتصورنا أنه لا يعرف اللغة ولا يفهم ما تقول بصوت عال كما لو أنها تخاطب الركاب كلهم.

ـ ألم تجد مكانا غير هذا المقعد..الترام به أماكن شاغرة كثيرة .

ـ ألا يمكن أن تتعلموا أسلوب حياتنا وأنتم تنفقون من الضرائب التي ندفعها؟

ـ السود كسالي ولهم رائحة قبيحة ومصابون بالإيدز.

ـ هل كان ينقصنا الافارقة أيضا، إنهم يتكاثرون كالأرانب؟، ألم نكتفي من البولنديين والأتراك؟

وتزيد السيدة العجوز في كلامها، دون أن يلتفت إليها أي من الركاب، ويبدو كل منهم في حاله، ومن ينظر ناحيتها يبتسم كما لو أنه ينصت إلي نكتة في بلد غريب..

ولا تتوقف إلا حين يصعد مفتش التذاكر إلي الترام، تراه من بعيد، تفتش في حقيبتها، تخرج تذكرتها، يخطفها الراكب الاسود في لمح البصر ويمضغها ويبتلعها، تغرق هي في بحر الدهشة ولا تطفو منه، يسألها المفتش: تذاكر؟

ترد: ابتلعها هذا الراكب الاسود.

يتعجب قائلا: لم أسمع بمثل هذه الترهات من قبل.

يخرج الراكب الأسود كارنيه ركوب..

يقول المفتش للعجوز: تعالي معي..أنت مخالفة ويصحبها خارج الترام الذي يكمل رحلته بالراكب الأسود.

هنا تتباين التفسيرات.. التفسير الغالب يصنف الفيلم بأنه ضد العنصرية، بدليل تجاهل الركاب للسيدة العجوز تماما وعدم استجابتهم لتحريضها وحججها ضد الأجانب سواء كانوا مهاجرين عاديين أو طالبين اللجوء السياسي، حتي إنهم لم يتعاطفوا معها حين خطف تذكرتها وبلعها وتركوها للمفتش يحاسبها بالقانون عقابا لها علي إهانته له..بمعني أن أوروبا الجديدة ليست ضد القادمين إليها، علي عكس أوروبا القديمة العنصرية التي تكرههم.

التفسير الآخر..أن الفيلم لا يعادي العنصرية والحكاية أن ركاب الترام كانوا مشغولين بأنفسهم، ولا يبالون بما تقوله العجوز، فهم لم يردوا عليها ولم يحاولوا إيقاف سيل الإهانات، ولا حتي بنظرة امتعاض..ولم يهتموا بالتذكرة المخطوفة إهمالا منهم، والسكوت علي العنصرية هو نفسه عنصرية، والنهاية نفسها تشي بأن الراكب الأسود سيكسب في النهاية الوطن الجديد ويسود فيه بسبب عدم مبالاة مواطنيه الأصليين.

نعم هو فيلم قابل لتفسيرات متناقضة وهذا هو الفن الجيد، ولكنه تنبه منذ وقت مبكر جدا إلي أزمة المهاجرين إلي أوروبا مع اليمين المتطرف، ويبدو أن المخرج تصور أن اليمين فقط هو العواجيز، بينما أوروبا الآن فيها الشباب كثير من اليمين، لكن العالم الجديد الذي وحدته المعرفة هو الراكب الأسود، فالبشرية لا تعرف الرجوع إلي الخلف.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف