الأهرام
عبد الرحمن سعد
حُلْوُ رسائل الله
أفتى العلماء بأن قراءة القرآن ببطء مع التدبر؛ أفضل من قراءته بشكل سريع دون تأثر، مؤكدين أن التدبر علة إنزاله، بدليل قوله تعالى: "كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ". (ص: 29)، وقوله سبحانه: "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا"، (محمد: 24)، وقوله عزَّ مِنْ قائل: "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا". (النساء: 82).
من هنا ذهب ابن القيم، رحمه الله، إلى أن: "قراءة سورة بتدبر، ومعرفة، وتفهم، وجمع القلب عليها؛ أحبُّ إلى الله تعالى، من قراءة ختمة سردًا، وإن كثر ثواب هذه القراءة"، مشيرا إلى أن هذه القراءة (الأولى) "أنفع للقلب، وأدعى إلى حصول الإيمان، وذوق حلاوة القرآن".

ومما يؤكد أن القراءة بتدبر وبطء أفضل، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "كان يقرأ مترسلا؛ فإذا مرَّ بآية فيها تسبيح سبَّح، وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مرَّ بتعوذ تعوذ". (مسلم عن حذيفة).

بل كان، صلى الله عليه وسلم، يقرأ السورة فيرتلها، "حتى تكون أطول من أطول منها". (مسلم عن عائشة).

وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أيضا، يقطع قراءته: آية آية (أحمد وأبو داود عن أم سلمة). وكانت قراءته، كما روى أنس: "مدًّا".. ثم قرأ "بسم الله الرحمن الرحيم"؛ يمد بسم الله، ويمد "الرحمن"، ويمد "الرحيم". (صحيح البخاري).

وقد فَقِهَ السلف ذلك، فبات البعض منهم، يتْلُو الآية الواحدة؛ طيلة ليله، يتدبرها، ويُردِّدها، إلى الصباح، حتى صحَّ عن ابن مسعود، رضي الله عنه، فيما رواه أحمد والطحاوي وغيرهما، عن نهيك بن سِنَان السّلمِيّ، أنه أتى ابن مسعود، فقال: "قرأتُ المُفصل الليلةَ في ركعة، فقال: "هذًّا مثل هذِّ الشعر، أو نثرا مثل نثر الدق؟ إنما فُصل لتفصلوا".

وعلى هذا؛ هناك أربع طرائق لقراءة القرآن، أولها التحقيق، وهي القراءة بتُؤَدة واطمئنان، مع إعطاء كلِّ حرفٍ حقَّه ومستحقَّه، وثانيها الحَدْر، وهي القراءة السريعة، مع مراعاة الأحكامِ، وثالثها التدوير، وهي وسط بين التحقيق والحدر، ورابعها الترتيل، وهي القراءة بفهم وتدبُّر، مع إعطاء الحروف حقَّها ومستحقَّها.

ولهذه الطريقة (الأخيرة) في قراءة القرآن الأفضلية؛ نظرا لنزول القرآن بها؛ قال تعالى: "وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا". (المزمل: 4)؛ أي: بتؤدة، وطمأنينة.

وقد أكَّد الله، تعالى، الفعل، في الآية: (رَتِّل) بالمصدر: (تَرْتِيلًا)؛ تعظيمًا لشأن القرآن، وذلك كما قال سبحانه: "وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا". (الإسراء: 106)؛ أي: لتقرأه بترسُّل، وتمهُّل؛ فإن ذلك أقرب للفهم، وأسهل للحفظ.

وأفضل القراءة ما كان في الصلاة، لقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ". (المزمل: 1 - 4).

ثم ما كان في جوف الليل، لكونِ القراءة حينها أجمعَ للقلب، قال تعالى: "لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ". (آل عمران: 113، 114).

ويُستحب أن يقرأ المرء القرآن على طهارة، فإنْ قرأ مُحدِثًا جاز بالإجماع، إلا أن القراءة تحرم حال الجنابة، والحيض، إلا بدون مس المصحف، كما يُستحبُّ أن تكون القراءة في مكان نظيف، لحديث أبي ميسرة، قال: "لا يُذْكَر اللهُ إلاَّ في مكان طيِّب".

وبالنسبة للجهر أو الإسرار، فقد ذهب علماء إلى أن الجهر بالقِراءة أَوْلَى، إلا إذا كان حولَه مَن يتأذَّى به؛ كالنائم أو المصلِّي، فيجهرُ، حينئذٍ، جهرًا خفيفًا لا يسمعه مَن حوله.

ويستحب بالطبع أن يقرَأ بقلبٍ حاضر، وأن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، عند بدْء القِراءة، لقوله، تعالى: "فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ". (النحل: 98).

فإذا قرأ القرآن هذه القراءة المتدبرة، فإنها تقوده إلى العمل به، لا محالة. وفي هذا خاطب علي بن أبي طالب، كرَّم الله وجهه، حَمَلَةَ القرآن، فقال: "يا حملةَ القرآن، أو قال: يا حملةَ العلم، اعملوا به، فإنَّما العالِمُ مَن عمل بما علم، ووافق علمه عمله. وسيكون أقوام يحملون العلمَ لا يجاوز تَرَاقِيَهم؛ يخالف عملهم علمهم، وتخالف سريرتهم علانيتهم، أولئك لا تَصعد أعمالُهم في مجالسهم إلى الله تعالى". (مسند الدارمي).

ولأن حمل القرآن، بتدبر وعمل، أعظم شئ على وجه الأرض، فقد قال الفُضيْل بن عِياض، رحمه الله، في حق صاحبه: "حَامِلُ الْقُرْآنِ حَامِلُ رَايَةِ الْإِسْلَامِ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَلْغُوَ مَعَ مَنْ يَلْغُو، وَلَا أَنْ يَلْهُوَ مَعَ مَنْ يَلْهُو، وَلَا يَسْهُوُ مَعَ مَنْ يَسْهُو. وَيَنْبَغِي لِحَامِلِ الْقُرْآنِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ إِلَى الْخَلْقِ حَاجَةٌ لَا إِلَى الْخُلَفَاءِ, فَمَنْ دُونَهُمْ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَوَايِجُ الْخَلْقِ إِلَيْهِ". (رواه أبو نعيم في الحلية، وسنده قوي".

في هذا المعنى أيضا، قال عبدالله بن مسعود، رضي الله عنه: "ينبغي لحامل القُرآن أن يُعرَف بليلِه إذِ الناسُ نائمون، وبنهاره إذِ الناس مُفطِرون، وبوَرَعِهِ إذِ الناس يَخْلِطون، وبتواضُعِهِ إذِ الناس يخْتالون، وبحُزْنِه إذِ الناس يفرحون، وبِبُكائه إذِ الناس يضحكون، وبصَمْتِهِ إذِ الناس يخوضون".

أما لماذا؟ فلأنه، كما قال الحسن البصريُّ، يرحمه الله: "إن مَن كَان قبلكم رأوا القُرآن رسائلَ من ربِّهم؛ فكانوا يتدبرونها بالليل، وينفذونها بالنهار".
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف