فيتو
د. صلاح هاشم
البسطاء.. وحكايا النهر!
اعتاد عم محمد شعبان أو عم "محمد السقا" حسب ما كان ينادونه في القرية.. أن يذهب إلى النهر بـ"قِربَتهِ" مرتين، واحدة في مطلع كل شمس، والأخرى قرب ساعات الغروب، إلا في يوم " شم النسيم" عادة ما كان يذهب إلى النهر مرة واحدة، بعد صلاة الفجر، ليختلسَ من "النهر النائم" شربة ماء تجعله أقوى رجالات الأرض، وليَملأ قربته الجديدة بماء النيل الجديد حسبُ ظَنهِ، الذي أخبره أن مَن يسبق إلى النهر في شم النسيم ويملأ جرته قبل الآخر، سوف تتحول مياه النهر في بيته إلى "ذهب"!

فكان السقا يحرص في ذلك اليوم بالتحديد على أن يذهب بقربته المليئة بماء النسيم، ليَصبها في "زِيرِ" بيته، ثم يذهب لينامَ، ويحلم بالتِبر!

ورغم أن النيل لم يَصدقه يومًا، فإنه ظل طيلة عمره يسابق شباب القرية إلى ماء النسيم، أملًا في أن يشفيه ماء النيل النائم من أوجاع الزمن التي ألهبت مفاصل قدميه، حتى لم يعد قادرًا على التجوال بقربته في أنحاء جزيرتنا، أو أملًا في أن يتحول ماؤه إلى ذهب! وكأنه وجد في الأمل حياة؛ تستحق أن يسابق الجميع إلى النهر من أجلها!

ومات عم محمد شعبان ولم ينل من ماء النسيم سوى شربة ماء من كوب وضع أسفل "الزير" الذي نضحَ منه ماءُ النهر! وكأن تلك الأسطورة نُسِجَّت من خيالِ الأغنياء؛ كي يظل "السقا" يملأ "أزيار" القرية دون مللٍ أو تمرد.. ليس فقط من أجل حفنة من الحبوب يتحصل عليها السقا، في كل موسم حصاد، لكن أملًا أن تأتي اللحظة التي يتحول فيها ماء النيل إلى ذهب؛ فتتحول معه حياة السقا إلى نعيم!

ليس النيل في كل الأوقات كما هو.. ففي حين يعشق أهل الجزيرة الجلوس على شاطئيه عند الغروب، يستوحشون النظر إليه أو السير على جانبيه في العتمة.. فلا تزال حكايا النهر في جزيرتنا تطارد أخيلة الأطفال والصبية وأصحاب القلوب الرهيفة.

فلم أنسَ أبدًا عًم "حمدي المركبي" الذي كان ينقلنا بمركبه عبر النهر، ورغم طِيبتهِ المتناهية، فإن "البياض" الذي في عَيّنهِ كما كان يُرعِبُنا في الصِغَرِ، كان يُثيرُ في أنفسنا أسئلةً كثيرةً في الكِبَر، أهمها: لماذا عيناه بيضاء هكذا؟ مما جعلني أتجرأ يوما وأسأل وَالِدي رحمة الله عليه عن سرِ البياضِ الذي في عَيّنهِ اليُمنَى، فحكى لي: أنه ذات يوم كان يقفُ "عم حمدي" بمركبه الصغير على شاطئ النهر، وإذا بـ"جثة" مَكفَيّةٍ على البطن تعوم في النهر، مما يدل على أنها جثة لـ"أنثى" وليست لذكر، فـ"جثث الذكور" عادة ما تأتي عائمة على الظهر، حسب ما كان يُحكىَ لنا في الصِغَر!

فناداها عم حمدي على الفور بالنداء الذي اعتاده الجميع في مثل هذه المواقف "يا جثة حَلِّت الدفنة" وإذا بالجثة تأتي إليه ليُكرِمُها بالدفن! وحين شرع عم حمدي في دفنها في الرمل الجاثم على شاطئ النهر، نظر إلى فَرجِها وقال "لو كنت حفظتيه ما كان قد فُعِلّ بك هكذا.. وإذا بالجثة تصفعه بكفها على عَيِّنِه، فيصيبه العمى في الحال! وظل عم حمدي يَذكرُ حكايته مع الجثة حتى مات، تاركًا خلفه درسا لأبناء جزيرتنا، بألا يخوضوا في أعراض الناس بلا دليل!

لا تتعجبوا.. فهذه ليس حكايات ماتت عن النهر، لكنها ما زالت حيَّة، تتوارثتها أجيال جزيرتنا حتى الآن، لتكمل جملة الأساطير التي ربطها المصريون بالنيل على مر التاريخ، حيث كان النيل بالنسبة للمصريين رمزا، نَسَجَت حوله أخيلةُ المصريين عديدًا من الحكايا، التي أوصلته ذات يوم ليصبح بالنسبة لهم "إلهًا" تقربوا إليه بأجمل فتياتهم في "عيد الوفاء"، وصلى له المسلمون حتى يجري، وحين تمرد النيل؛ أرسل له عمر بن الخطاب برقية تهديد!

وهناك أيضا قصص ما زالت تُروى لأطفال جزيرتنا أغربها حكاية "المَسحُوُر".. والمسحور هو "رجل" أعدت له زوجته سحرًا، يجعله يُفَضِّلُ الحياة في النهر، فيتحول من إنسان يعيش خارج النهر، إلى وحش لا يمكنه العيش سوى في داخله!

وكانت عملية السحر هذه بمثابة عملية تأديب، إذ بإمكان الزوجة أن تفك السحر، بشرط ألا يمضي على نزوله النهر أربعون يومًا كاملة، فإذا أردت أن تستعيده مجددا ذهبت إلى النهر، ومعها زوج من الحمام، نصفه مطهو ونصفه الآخر نَيئ، ووقفت على شاطئ النهر تناديه باسم "أمهِ"، فإذا ما سمع االمسحور صوتها حَلَّ، فتقدم إليه الزوجة الحمامتين -المطهوة والنيئة- فإذا فضل المطهوة على النيئة اطمئنت وأعادته إلى البيت، أما إذا استحسن العكس؛ تدرك المرأة أنه صار "وَحشًَا" وعادت إلى البيت بخيبة الأمل!

ورغم عدم منطقية هذه الأسطورة، فإنها كانت مُصدقةً لديهم.. وكانت ترمز دائمًا لجبروت المرأة هناك، وتُكرس في عقيدةِ البسطاءِ من الناس، أن الرجل ألعوبة المرأة، وأن المرأة دائمًا كانت ألعوبةَ إبليس.. وعلى الرجل دوما أن يتوخى الحَذَر!

فلم تكن حكايا المسحور في جزيرتنا مجرد أسطورة تتناقلها مجالس الكبار والأطفال، فبخلاف أنه "البعبع" الذي تهدد به الأمهات أطفالها المتمردين، إذ بات المسحور بمثابة مبرر قوى، لِغَرَقِ كثيرٍ من أطفال القرية وصبيانها، ليظل النيل في سكينتهِ دائمًا، شاهدًا على جرائم الليل المعتم!

فكما كان النيل في الصعيد بسيطًا متواضعًا، كانت حكايا البسطاء أيضًا بسيطة، ترسم كل يوم خصائص الإنسان في الصعيد، الذي حركته يومًا إلى النهر شَربَة ماءٍ من قِربَةِ سقاء، وأخَافتهُ من النهر حكايا المسحور!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف