الأخبار
جلال عارف
في الصميم ترامب يسقط الأقنعة سنحارب.. لمن يدفع !
لاأظن أنه من الممكن أن يستمر الحكم في دولة عظمي مثل الولايات المتحدة بهذه الطريقة التي يتبعها الرئيس »ترامب»‬ حيث تتضارب القرارات، ولا تتضح الرؤي الأساسية للحكم، ولا أحد يستطيع التنبؤ بالخطوة التالية في أي قضية علي جدول أعمال الإدارة الأمريكية!
في بداية الأسبوع أعلن »‬ترامب» عن نيته سحب القوات الأمريكية من سوريا في أسرع وقت. يوم الأربعاء كان القرار بعد اجتماع مجلس الأمن القومي برئاسته هو البقاء في سوريا حتي نهاية الحرب علي داعش.. أي تأجيل قرار الانسحاب الذي عارضه الكثيرون داخل الإدارة الأمريكية نفسها، وقالت وزارة الخارجية فور إعلانه إنها لا تعرف عنه شيئاً!
وبصرف النظر عن أن القوات الأمريكية في سوريا لا يتجاوز عددها الألفين من الجنود، وأنهم يعملون أساسا كمستشارين أو منسقين للجهد العسكري مع حلفاء أمريكا هناك.. فإن مسألة الانسحاب في هذا التوقيت ثم التراجع عنها تبدو كاشفة لاضطراب السياسة الأمريكية الخارجية، ولخلل كبير في أسلوب اتخاذ القرار في دولة تتحمل مسئوليات كبيرة في الأمن والسلام العالميين.. أو هذا هو المفترض.
والغريب أن يحدث هذا التضارب بشأن القرار بالبقاء في سوريا أو الرحيل عنها، في وقت كان البعض يتصور أن التغييرات الأخيرة »‬حتي الآن!» في الإدارة الأمريكية قد حققت لترامب الكثير مما يريده، ووفرت له فريقاً متجانساً لتنفيذ سياساته اليمينية المتشددة في السياسة الخارجية، خاصة بعد تعيين »‬جون بولتون» مستشاراً للأمن القومي وترشيح »‬مايك بومبيو» وزيراً للخارجية بعد إقالة مهينة للوزير السابق »‬تيلرسون» المتهم بالاعتدال.
ولأول وهلة فسر البعض قرار الانسحاب علي أنه إقرار بالهزيمة في سوريا.. بينما ذهب البعض الآخر إلي العكس، مفسرين القرار بأنه خطوة لتوريط روسيا في معركة استنزاف طويلة، أو بأنه تمهيد لتصعيد الموقف ضد إيران، وربما توجيه ضربة عسكرية لها.. ووفقا لهذا التفسير فإن سحب القوات الأمريكية من سوريا ضروري حتي لا يكون جنود أمريكا بمثابة رهائن لدي الإيرانيين وحلفائهم إذا احتدمت الأزمة وتطورت الأمور إلي الحل العسكري.
لكن كل هذه الخلافات في البحث عما وراء قرار ترامب بالانسحاب من سوريا، اختفت أو توارت خجلا حين وضع الرئيس الأمريكي قضيته في جملة مفيدة وقصيرة: بعض الدول تريدنا أن نبقي في سوريا، لا مانع بشرط أن تدفع!!
الحط من قيمة أمريكا كقوة كبري، وتحويلها إلي دولة تحارب بالوكالة عمن يدفع، هو أمر يتعلق بأمريكا ومؤسساتها ورؤيتها لمكانتها وللعالم. لكن الأمر بالنسبة لنا في الوطن العربي يستوجب إعادة النظر في أمور كثيرة تتعدي الوضع في سوريا، إلي الأمن القومي العربي بمجمله.. خاصة حين يقول الرئيس الأمريكي »‬في نفس السياق» إن أمريكا دفعت سبعة تريليونات دولار في الشرق الأوسط علي مدي خمسة عشر عاما ولم تجن سوي الموت أو الدمار. وهو ما يستدعي عدة ملاحظات:
>> يتناسي هذا الطرح من »‬ترامب» أن أمريكا لم تأت قبل خمسة عشر عاماً لتستثمر في الخير لها وللمنطقة، وإنما جاءت ـ استناداً إلي أكاذيب متعمدة ـ لكي تدمر دولة العراق، وتغرقها عمداً في مستنقع الحروب الطائفية، وتفتح الباب علي مصراعيه للنفوذ الإيراني كي يتوسع ويتمدد.
>> ويتناسي الرئيس »‬ترامب» أن ما حدث كان جريمة ضد الإنسانية راح ضحيتها مليون عراقي. وأنه لو كانت هناك عدالة دولية حقيقية لكان علي بلاده أن تدفع ثمن جريمتها في العراق، وأن تعوضه عن الدمار الذي لحق بالدولة، والضحايا الذين سقطوا بسبب الحرب العدوانية غير المشروعة، بدلا من الحديث الأحمق عن أن أمريكا تستحق أن تأخذ ربع نفط العراق مكافأة لها علي ما قدمته من خدمات غير جليلة!
>> ويتناسي الرئيس ترامب أن سوريا لم تطلب من واشنطن أن تأتي للعدوان عليها، وأن سوريا لم تطلق »‬الدواعش» ولم تتبن »‬الإخوان» وإنما دفعت سوريا ثمن ذلك دماراً لمدنها وقتلاً لأبنائها، وتشريداً لشعبها، بعد أن حولتها الصراعات الدولية إلي ساحة لتصفية الحسابات كانت أمريكا لاعباً أساسياً فيها.
>> لكن »‬ترامب» يذكرنا بأن أمن بلادنا هو مسئوليتنا أولا وأخيراً، وأن بناء القوة القادرة علي حماية الدولة الوطنية هو الأساس، وأن السعي لنظام أمن عربي مشترك هو الفريضة الغائبة. يقول »‬ترامب» بقراراته المتناقضة ان القواعد الأجنبية لا تحمي نظاماً، وأن تسول الحماية الخارجية لا يؤمن الحكام المتسولين وأن »‬المتغطي» بأمريكا أو غيرها.. عريان!
>>>
.. ويبقي المشهد في سوريا دليلا علي المأساة التي لابد من تجاوزها. كان »‬ترامب» يستعرض تناقضاته في نفس الوقت الذي كان رؤساء روسيا وتركيا وإيران يلتقون لبحث مستقبل سوريا. وفي ظل الضعف العربي الكارثي، يظل القرار مرهونا بتوافق روسيا وأمريكا، ويظل علي العرب أن يدفعوا الفواتير في زمن أصبح فيه رئيس أمريكا يتباهي بأنه يحارب لمن يدفع!

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف