اليوم السابع
عباس شومان
التعايش فى الإسلام
يرفض بعض أتباع الديانات الاندماج فى مجتمعاتهم ويصرون على الانغلاق على أتباع دينهم بدعوى مخالفة الآخرين لدينهم الذى ينتمون إليه وربما لعاداتهم وطقوسهم التى يمارسونها، وتظهر هذه المشكلة بشكل كبير فى كثير من دول الغرب، حيث يتحرج المسلمون الذين هم من أصول عربية من التعامل مع المواطنين غير المسلمين، فتجدهم ينشئون لهم تجمعات ومراكز خدمية خاصة تجعلهم منعزلين عن مجتمعهم الذى يعيشون فيه، ويصرون على ارتداء أنواع معينة من الملابس والظهور بمظاهر لا تناسب ثقافة الدول التى يعيشون بها وإن ناسبت ثقافة البلدان التى ترجع إليها أصولهم.

ولا بأس بطبيعة الحال من اتخاذ المسلمين المقيمين فى بلاد الغرب مقرًّا خاصًّا يكون مسجدًا يقيمون فيه صلاتهم أو مدرسة لتعليم أبنائهم ما ينقصهم فى مناهج مدارسهم مما يتعلق بأمور دينهم، فكل أتباع دين أو ثقافة يفعلون ذلك، ولكن المشكلة تكمن فى رفض الاندماج فى مجتمعاتهم وعدم قبول ما لا يتنافى مع مبادئ ديننا الإسلامى الحنيف أصلًا، ومن ذلك مثلًا الزى الذى يرتديه غالبية مواطنى الدولة ما دام لا يوجد به ما يخل بالحشمة المطلوبة شرعًا، أو تناول الأطعمة والأشربة التى ليس بها ما يخالف شريعة الإسلام، ومن ذلك أيضًا التعايش مع غير أتباع الدين والتعامل معهم بيعًا وشراء وتكوين علاقات اجتماعية معهم، فليس فى ديننا ما يمنعنا من ذلك، بل إن ديننا يوجهنا إلى التعايش والاندماج وقبول الآخر والتعارف معه، يقول الله تعالى: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)، ويقول عز وجل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا).

ولنا فى رسولنا الكريم–صلى الله عليه وسلم–وسلفنا الصالح القدوة الحسنة والمثل الأعلى، فقد أوذى النبى ومَن آمن به فى مكة المكرمة حتى اضطر للخروج منها مهاجرًا إلى المدينة المنورة، مستعينًا بأحد المشركين–وهو عبدالله بن أريقط–فكان دليله فى طريقه إلى المدينة التى كانت تستوطنها قبائل يهودية، وعندما قدم إليها لم يأمرهم نبى الرحمة بتركها، ولم يقاتلهم على دينهم، ولم يأمر أتباعه بمقاطعتهم وقصر التعامل فيما بينهم كمسلمين، بل عقد معهم معاهدات سلام تضمن التعايش السلمى بينهم وبين المسلمين، وقد إلتزم بها المسلمون حتى نقضها اليهود، بل إنه بعد نقض اليهود لمعاهدات السلام المبرمة مع المسلمين لم يقطع المسلمون التعامل والعلاقات المختلفة معهم، فيهود خيبر بعد أن قرر الرسول–صلى الله عليه وسلم–طردهم من المدينة لنقضهم العهد مع المسلمين، طلبوا أن يزرعوا للمسلمين أرض خيبر التى كانت تحت أيديهم على نصف ما يخرج منها من زرع أو ثمر، فقَبِلَ النبى هذا العرض، وقد أصبح هذا مبدأ لما يعرف فى فقهنا الإسلامى بالمزارعة، وهى أن يسلم صاحب الأرض أرضه التى لا قدرة له على زراعتها بنفسه إلى مَن يزرعها له على أن يشتركا فيما تنتجه الأرض، كما كان هناك شراكة أخرى تسمى بالمساقاة، وهى أن يسلم صاحب حديقة مثمرة حديقته التى لا يحسن رعايتها بنفسه لمن يحسن ذلك، على أن تكون الثمار التى تنتجها هذه الحديقة بينهما حسب ما يتفقان عليه.

وهذا التعامل بين نبى الرحمة والرافضين لدينه يمثل أرقى النماذج فى المواطنة والعيش المشترك وقبول الآخر، وقد نتج عنه عمليًّا التأسيس لشركات تصلح بين المسلمين بعضهم بعضًا وبين المسلمين وغير المسلمين من مواطنى الدولة الواحدة. وقد أُقرت هذه المبادئ السامية وترسخت فى وثيقة المدينة المنورة التى تعد أول وثيقة فى التاريخ تؤسس للعيش المشترك وقبول الآخر فى ظل مبدأ المواطنة الذى يسوى بين جميع مواطنى الدولة دون نظر إلى جنس أو عِرق أو دين. وعلى نهج رسولنا الأكرم سار الصحابة–رضوان الله عليهم–فتعاملوا مع مواطنى الدولة الإسلامية من غير المسلمين وحافظوا على حقوقهم ولم يلزموهم بأكثر من واجباتهم، مما أدى إلى أن أقدم غير المسلمين اختيارًا وطواعية إلى قضاة المسلمين للفصل بينهم فى خصوماتهم مع بعضهم بعضًا على هدى شريعة الإسلام.

وهذه المبادئ الراسخة المتجذرة فى تراثنا الإسلامى تعد مصدر فخر لنا نحن المسلمين، فقد سبقنا بها المنظمات الأممية والهيئات الحقوقية المعنية بهذا الشأن، وقد اعتمد عليها الأزهر الشريف فى مخرجات مؤتمره العالمى (الحرية والمواطنة: التنوع والتكامل) الذى عقده فى فبراير 2017م، حيث دعا إلى استبدال مبدأ المواطنة بمصطلح الأقليات الوافد إلينا من بلاد الغرب التى تدعى تقدمها وتحضرها ودفاعها عن حقوق الإنسان وحمايتها للتعددية بمختلف صورها.

وتلك مقاربة موجزة تؤكد سماحة ورقى ديننا الإسلامى الذى ننتمى إليه، وتثبت سبقه بمبادئه وتعاليمه التى أرساها قبل نحو خمسة عشر قرنًا من الزمان لكل ما فيه الخير للبشرية جميعا. ولذا، فإن على أتباع ديننا الحنيف أن يقتدوا برسولنا الكريم ويتأسوا بسلفنا الصالح باندماجهم فى مجتمعاتهم التى يعيشون فيها وإن كان غالبيتها من غير المسلمين، وأن يكونوا إيجابيين فاعلين بمشاركتهم فى نهضة مجتمعاتهم وتطورها، وليعلم المسلمون الذين يقيمون فى بلاد غير إسلامية أن أجدادهم نشروا الإسلام فى هذه البلدان وغيرها من خلال أخلاقهم ومعاملتهم وسلوكهم التجارى الذى تحلى بالصدق والأمانة، والوفاء بالعقود والمواثيق، واحترام ثقافة الآخر، وليدركوا أن لين الجانب والتسامح وإظهار محاسن الإسلام هى خير سفارة لإسلامهم إن كانوا حقًّا من الغيورين عليه، وليعوا أن خروج الأحفاد عن نهج الأجداد فى تعاملهم مع الآخر هو الذى دعم ما يعرف الآن بظاهرة الإسلاموفوبيا فى هذه البلدان، وهو ما يدل دلالة واضحة على إخفاق الأحفاد فى الحفاظ على منجزات الأجداد!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف