الأهرام
منير عامر
أهلا يا أنا .. هل تعرفون عبد الحليم حافظ ؟
عاتبت بخيالى القدر وأنا استمع للطبيب الكبير العالم مازن نجا سيد العلاج والتشخيص بالمناظير وهو يقول « لو امتد العمر بعبد الحليم حافظ حتى عام 1985 لكان من السهل سد كل دوالى المرئ فى عملية بسيطة « . وتمتمت لنفسى « لكنه رحل عن عالمنا فى نهاية مارس 1977؛ ومع ذلك ظل يولد مع كل قصة حب ؛ فصار عمره ممتدا من خلال « شوفتم عنيه .. حلوين قد إيه .. حاتقولوا انشغالى وسهر الليالى مش كثير عليه » .

.....................

واستدار الطبيب ليخرج من غرفتى بعد أن قضيت ثلاثة ايام فى غرفة الإنعاش كان ختامها التخدير لأجزاء من الجسم كيلا أتالم من دخول المنظار الطبى للمريء والمعدة والامعاء؛ ثم الإفاقة ليقول الطبيب «هى الانيميا الحادة وكانت هى السبب فى إحساسك بأن كفا حديدية عملاقة اكبر من كل جسدك قد امسكت بك كأنك ورقة كراسة وبدأت فى كرمشتها ؛ وهذا بسبب النزيف البطيء» . إبتسمت فى وهن متسائلا « هل ظن النزيف انى عبد الحليم حافظ فيهاجمنى بتلك الوحشية البطيئة الشرسة وغير المحسوس بها إلا بالعجز عن السير خطوات ثم مهاجمة الدوار ؛ فضلا عن سرقته لنصف قدرة الإبصار؟ » . ابتسم الطبيب متسائلا: ألم تكن معاتبا لعبد الحليم عندما كان يمرض ويطول المرض؟

ولم اجب على السؤال لانى كنت اندهش حين أتذكر كيف اسرع عبد الحليم بإرسال صندوق فيه عشرات العبوات من دواء كنت لا اجده لإبنى حديث الولادة فى يناير 1971؛ وكتب كلمة واحدة « ادعو لشريف بالشفاء ». وكان إبنى شريف قد اصيب وعمره عشرة ايام بالتهاب رئوى حاد. وكتب الطبيب مضادا حيويا نادر الوجود. وما ان كتبت نداء طلبا للدواء ؛ وقرأ عبد الحليم النداء أرسل طلبا له من بيروت ليرسله لى على الفور . أيقنت لحظتها ان من يعرف ألم المرض يسعى لشفاء اى مريض. وكنت أندهش من الصرخات المكتومة لحظة مهاجمة النزيف لعبد الحليم ؛ فأتساءل «هل هناك الم بشرى كمثل هذا الالم ؟». ولا أنسى كيف كاد عبد الحليم أن يسقط من طوله على باب شقته لحظة أراد توديع شمس بدران مدير مكتب عبد الحكيم عامر وهو من زار عبد الحليم ليطمئن على صحته ويبلغه بأن كل الإمكانيات متوفرة كى يسافر إلى لندن لتلقى العلاج. وعندما كاد عبد الحليم ان يقع إمتدت يد عبد الرحيم السفرجى لتسنده وتساعده على الوصول إلى غرفة النوم، وحاولت المغادرة إلا ان عبد الحليم طلب بقائى كى ندردش فى اى امر لأنه أثناء المرض يغيب الكثير من الاصدقاء ؛ ولاحظ مسرحية « المتوحشة » لجان انوى فى يدى ؛ سألنى عنها وعن مترجمها أستاذ النقد الكبير محمد غنيمى هلال « فأجبته ضاحكا » د. غنيمى هلال من أبناء الشرقية الذين تعودوا عزومة أى قطار يمر عليهم ؛ فهو شرقاوى مثلك ومثل ابى بل هو من نفس القرية. تنهد عبد الحليم : الشرقية والحلاوات والجرى وراء حمار الخالة نعيمة ، وتسلق باب ضخم لأصل إلى نخلة تكشف لى صورة عبد الوهاب وهو يغنى فى فرح أحد ابناء الأعيان؛ واسقط من على الشجرة ليقع ضلع من الباب الخشبى على ساقى فيجرى شحاته إبن خالتى لينادى أخى إسماعيل الذى يستأجر حمارا كى ينقلنى إلى المستشفى وطبعا يوبخنى إسماعيل لأوقفه عندما أهدده بأنى سأحكى لعلية شقيقتنا التى يهاب دعواتها . يصمت لبرهة ثم يسألنى لماذا لم أجلس معه وشمس بدران فى غرفته ؟ ولم يكن هناك مفر من قول الحقيقة ، فشمس بدران بالنسبة لى شخص غير مقبول؛ لأنه قبل أسبوعين من رؤيته فى بيت عبد الحليم كان قد اعتقل صديقا قريبا من قلبى ؛ هو الكاتب الصحفى بجريدة الجمهورية وسيم خالد ؛ وهو من كان أصغر المتهمين فى قضية اغتيال امين عثمان مع أنور السادات وشلة من الشباب فيما قبل 1952؛ وكان من ذكر اسم وسيم خالد لشمس هو حسين توفيق الذى عشق أن يكون إرهابيا محترفا واستطاع تنظيم الإخوان المسلمين التواصل معه للاتفاق على اغتيال جمال عبد الناصر . وكان من عادة حسين توفيق أن يذكر كذبا اسماء عدد من معارفه عند اى إعتقال ويبرر لهم ذلك بجنون الإرهابى « يعنى أتسجن واتعذب لوحدى ؟ شاركونى وكونوا ونس ليا ومعايا » . وطبعا كان من المستحيل أن يكون وسيم خالد قد شاركه جنونه ، لان وسيم يحتقر استغلال الدين فى السياسة ويرى أن الإخوان المسلمين عملاء بقصد او بغير قصد لكل القوى الاستعمارية . فضلا عن ان وسيم خالد كان صاحب بصيرة مستقبليه وله كتاب مثير عن تحول الاتحاد السوفيتى إلى نفس اساليب الاستعمار ويحاول إرضاخ الشعوب التى تتقارب معه ويشترى منها إنتاجها من المواد الخام بأسعار غير عادلة . ضحك عبد الحليم قائلا « أنت غير معجب بالغرب وكمان غير معجب بالشرق » قلت : انت تعلم ذلك منذ لقائنا فى منزل السفير جمال منصور بباريس للمرة الاولى التى عرضت فيها على شخصى مسألة كتابة تاريخ حياتك ، لعلك تذكر أنى كنت أرغب فى التعرف على رموز اليسار الجديد فى باريس ؛ هذا اليسار الذى يرفض الرضوخ للروس وطبعا يرفض الرضوخ للامريكان والغرب « . قال عبد الحليم : إن كنت ترغب فى واسطة عند شمس بدران من اجل وسيم خالد فانا جاهز . ضحكت قائلا : أعفانا وسيم خالد من كل ذلك فبعد ان افرج عنه شمس بدران دق باب غرفتى فى السادسة صباحا طالبا الاختباء عندى فى البنسيون ، وأن أتصل بشعراوى جمعة وزير الداخلية وهو صديق مشترك لى ولوسيم وهو من استصدر قرارا من جمال عبد الناصر لعلاج وسيم بتغيير صمامات القلب فى مستشفى كليفلاند بالولايات المتحدة . ونفذت لوسيم رغبته وأخذ قرار السفر ودموعه تتساقط أثناء وداعى له قائلا « تصور إن شمس بدران أمر العساكر بطرحى ارضا ووضع حذاءه فوق رقبتى قائلا : لو كان ثبت عليك الاكاذيب التى نطق بها حسين توفيق لضغطت على رقبتك إلى آخر نفس لك .

قال عبد الحليم شمس مشهور عنه القسوة الشديدة .

تركت عبد الحليم لانى كنت افكر فى جنون شمس بدران بالسلطة ، بعد ان اشاع عن نفسه ان له نصف نجاح ثورة يوليو بحكم ان زملاء دفعة عام1948 من الضباط هم من قاموا بمعظم مهام أيام الثورة الاولى عام 1952. وثبت بعد الهزيمة الكارثية عام 1967 أن كثيرا من اقوال شمس هى دعاية لنفسه بعد ان توهم أن اتفاق عبد الحكيم عامر وعبد الناصر على التنحى مساء التاسع من يونيو 1967 يعنى أن حكم مصر صار ثمرة ستقع فى يده ، لكن تنحى عبد الناصر لم يأت فيه ذكر له ولا لعبد الحكيم عامر وكان الشعب الثرى فى بر مصر المحروسة قد خرج ليعلن سقوط إمبراطورية الكذب التى أجادها شمس وبعض من جماعة عبد الحكيم عامر ؛ فكان خروج المصريين رفضا للهزيمة وتمسكا بقيادة عبد الناصر هو الرصاصة الأخيرة فى عرش تلك الأكذوبة . ومن شدة حرص جمال عبد الناصر على ولاء ضباط دفعة 1948 لمصر لا لشخص أيا كان هذا الشخص . قام بتكليف محمد زغلول كامل المدير الأسبق للخدمة السرية لمناقشة معظم من بقى من دفعة شمس بدران فى الخدمة العسكرية؛ وذهبت مع زغلول كامل لمناقشة الضابط يوسف صبرى ابو طالب احد ضباط المدفعية المشهود لهم بالعلم والكفاءة ، وحين جاءت سيرة الهزيمة العسكرية قال يوسف صبرى ابو طالب لزغلول كامل « أرجو ان تبلغ الرئيس جمال عبد الناصر أن المقاتلين يدافعون عن وطن ، فإن كان القائد وفيا للوطن فالمقاتلون يدافعون عنه أثناء دفاعهم عن الوطن « . وعندما تأكدت الصداقة بين كاتب هذه السطور وبين يوسف صبرى أبو طالب أثناء حرب الاستنزاف وبعد حرب أكتوبر وتوليه منصب محافظ سيناء الشمالية ثم توليه منصب محافظ القاهرة ثم القائد العام للقوات المسلحة يمكننى أن أشهد انه فى كل المواقع التى تولاها كان يضع الوطن بعد الله مباشرة, وهو من اكد لى شراهة شمس بدران للسلطة بأى شكل ومهما كلفه ذلك .

ولان فى مصر شعب ثرى يجيد اختيار قياداته لذلك أسقطوا شمس الذى سبق ووضع قدمه فوق عنق كاتب جليل هو وسيم خالد ، الذى تنبأ بسقوط الاتحاد السوفيتى مبكرا ، وغادر الحياة مبكرا ايضا .

.....................

لم أكن أتصور قدر الألم الذى كان يعانيه عبد الحليم حافظ عند النزيف المسبب للانيميا الحادة إلا عندما عانيت من الانيميا الحادة بسبب نزيف شديد التباطؤ؛ فكأن كفا حديدية ضخمة وعملاقة تمسك بالجسد كله دفعة واحدة لتضغط عليه فيصرخ الإنسان من فرط الألم والاختناق .

وكان عبد الحليم يكتم ذلك ويجرى بروفات اغانيه ولعل أغنية رسالة من تحت الماء تصور حالة الاختناق بالعاطفة لا بالنزيف ؛ وكانت هى الأغنية التى عاصرت كل خطواتها معه. وحضرت العديد من البروفات ؛ ثم فوجئت به يتوقف عند زيارة رجل وامرأة له فتجهم وجهه قليلا وبدا غير مرتاح لوجودهما ، سمعت السيدة تقول له « إشتريت لنفسك قماش ستاير أحلى من قماش الستاير التى أهديتها لنا . وفوجئنا نحن حضور البروفة برائحة شياط مصدره تلامس الستارة الأساسية لصالون بيت عبد الحليم الذى صمم ديكوراته فؤاد باشا سراج الدين . سكرتير حزب الوفد قبل ثورة 1952 وكان سبب رائحة الشياط تلامس الستائر لسلك عار للتكييف ؛ فنادى عبد الحليم على عبد الرحيم السفرجى ليطفئ التكييف وينزع الستارة المحترقة ، ثم أمسك بيد السيدة التى عاتبته على شرائه لستائر منزله أجمل من الستائر التى أهداها لها ولزوجها ، وأمسك بيد زوجها وصحب الإثنين إلى باب الشقة قائلا « لما تبطلوا حسد للناس أبقوا زوروهم « . وراح يقول « أعوذ بالله « ومضى يقرأ المعوذتين .

كنت أعلم أن حساسيته للحسد فائقة فوق أى خيال إلى الدرجة التى حرم فيها على أحد الأقربين له زيارته قائلا لفردوس إبنة خالته ومديرة منزله» حاولى تبعديه عنى .. عنيه مدورة تحرق اللى تشوفه « وكانت التمائم والأحجبة تلتف حول يديه ووضعها حول رقبته. وكثيرا ما قلت له « أنت صاحب مرض وربنا باعد عنك الحسد « فيبتسم « الحسد يحرق جبال مش ستاير صالة وبس »

وجاء الكاتب الصحفى محمود عوض مؤلف المسلسل الإذاعى الوحيد الذى مثله عبد الحليم « أرجوك لا تفهمنى بسرعة»، وكان محمود معذبا من فرط دقة ووسوسة عبد الحليم بخصوص كل كلمة فى المسلسل إلى الدرجة التى طلب فيها عبد الحليم منى المشاركة فى كتابة المسلسل ، لكنى اقترحت اسم وحيد حامد الكاتب المحترف لمسلسلات الإذاعة فى ذلك الوقت ، وبالفعل اعاد وحيد حامد صياغة الحلقات الثلاث الاولى ورسم لمحمود عوض كيفية إكمال المسلسل ، ورفض فى نفس الوقت تقاضى اى اجر على ما فعل أو حتى إذاعة اسمه على الحلقات الثلاث الاولي.

وطبعا كانت وسوسة عبد الحليم فوق الخيال ، فقد فوجئت بزيارة الفنان الحبيب يوسف فرنسيس لعبد الحليم ، ويطلب منه قراءة حلقات مسلسل « أرجوك لا تفهمنى بسرعة » فيتصفحها يوسف ليقول « المسلسل ماشى قلقان ليه يا حليم ؟ يضحك عبد الحليم » مش عارف قلقان ليه ؟ أنت نسيت عذابك انت والأستاذ سعد الدين وهبة عند كتابة سيناريو « أبى فوق الشجرة » . ضحك كلاهما بعد تذكر أن الفيلم حقق واحدا من أعلى الإيرادات فى السينما المصرية ولم ينافسه إلا « خلى بالك من زوزو » لسعاد حسنى .

ودعانا عبد الحليم لنجلس فى الفراندة ليجد أصيص زهور صينى الصناعة وفيه عود ورد بلدى كان مزدهرا من شهور. وكنت أعلم ان سعاد حسنى هى التى أهدته الاصيص والوردة التى كانت مزروعة به ، وسمعته ينادى عبد الرحيم السفرجى الذى كاد أن يكون المسئول الاول عن رعاية عبد الحليم ، ويطلب منه خلع عود الورد البلدى الذى جف ولن يزهر . وتبادلت مع يوسف فرنسيس النظرات فلاحظ عبد الحليم ذلك قائلا « كل حب يا إما يعيش يا إما يموت ». ولم يعلق أحدنا بأى كلمة ، فأضاف هو «الصداقة ممكن تغنى عن الحب». ودق التلفون بجرس طويل ممتد كدليل على انه من خارج القطر ، وجاء إسمها على صوته وهو يقول « أهلا يا .. » . وكان الإسم لسيدة من بلد عربى تقيم فى لندن وهى القصة الأخيرة التى غزلت فيها ملاءة من الدانتيلا لتفرشها على سريره ، وهمس بعد إنتهاء المكالمة إن كتب الله لى الشفاء ستكون زوجتى قال يوسف فرنسيس «يارب».

ولم تمض سوى أسابيع ليسافر إلى المغرب وفيها يشتاق للقمة مغموسة بالدمعة فتكون الدمعة «الصلصة» مزدحمة كعادة الصلصة المغربية بالفلفل الحار ، فتكون تلك أول خطوة فى طريق نهاية الجسد، وعلى سرير المرض يتذكر الكتابة للروائى الكبير فتحى غانم قائلا انه قرر التوبة عن الحياة الفوضوية وسيحترم ظروفه الصحية لكن القدر لم يمنحه حق الإستقالة من الجنون الفوضوى الذى عاش به لسنوات طوال.

> >

ورغم الغياب إلا أن عبد الحليم احترف إعادة الميلاد مع كل قصة حب تولد وترتوى من نبع صوته ، فكأن هناك عبد الحليم جديد مولود مع كل آهة حنان وكل همسة حب . ولذلك كان من حقى التساؤل أنا الذى عشت فى رحاب استجوابه منذ يناير 1964 وحتى ديسمبر 1977 من حقى التساؤل هل تعرفون عبد الحليم حافظ ام ان فى كل قصة حب هناك عبد الحليم حافظ يخص القصة وحدها ؟

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف