المصريون
د. عبد الآخر حماد
الشيخ الغزالي حين يتحدث عن الأكاسرة
من وقائع السرة النبوية -على صاحبها أفضل الصلاة وأتم السلام -أن كسرى ملك الفرس لما بلغه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى (باذان) عامله على اليمن : (أن ابعث إلى هذا الرجل بالحجاز رجلين من عندك جلدين فليأتياني به .. ) والخبر أخرجه ابن جرير الطبري في تاريخه وابن أبي شيبة في مصنفه ،وأورده الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية ،وحسنه الألباني في تخريج فقه السيرة ( ص: 389) وفي السلسلة الصحيحة ( 1429) وفيه أنه لما جاء الرجلان دخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما ، فكره النظر إليهما ثم أقبل عليهما فقال : ويلكما من أمركما بهذا ؟ قالا: أمرنا بهذا ربنا- يعنيان كسرى- ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( لكن ربي قد أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي ) وفيه أيضاً أنه قال لهما : ( أبلغا صاحبكما أن ربي قد قتل ربه كسرى في هذه الليلة ) ، وكان صلى الله عليه وسلم قد جاءه الخبر من ربه بأن شيرويه بن كسرى قد وثب على أبيه فقتله .
أعجبني عرض الشيخ محمد الغزالي لهذه الواقعة وتعليقه عليها في كتابه فقه السيرة ( ص: 389) حيث قال رحمه الله : ( والطريف أن والي اليمن لما صدر إليه أمر كسرى سارع إلى تنفيذه، فأرسل اثنين من لدنه إلى المدينة ، يعرضان على النبي عليه الصلاة والسلام أن ينطلق معهما ليُسأل عما فعل ،ونظر النبي صلَّى الله عليه وسلم إلى الرجلين فوجدهما من ذلك النوع الذي تربيه الملوك في القصور كما تربي النسوةُ في بلادنا الديكةَ الرومية..مناظر فارهة، وبواطن تافهة.فلما رأى شواربهما مفتولة، وخدودهما محلوقة، أشاح عنهما وقال: ويحكما من أمركما بهذا؟ قالا: أمرنا ربنا!! يعنيان كسرى.. إن تأليه الملوك ضلال قديم، وبعد أن انتشر الإسلام ذهبت حقيقة التأليه، ثم عادت الآن آثاره وخصائصه، فالملك يلقب صاحب الجلالة، ولا يُسأل عما يفعل، ويبطل شرائع الله ليقيم شرائع الهوى، ويمتد هو وبطانته لتنكمش أمامهما أمته ).
وبعد : فإذا كان لنا من تعليق على هذا الذي نقلناه من كلام الشيخ الغزالي فهو أن نشير إلى أن هذه الكلمات تعبر عن سمة أساسية من سمات شخصية الغزالي رحمه الله ألا وهي حبه للحرية ،وكراهيته المطلقة للظلم والاستعباد ، وهذه السمة منبثقة عنده -فيما نرى - عن حب عميق لهذا الدين وعاطفة جياشة تجاهه ، فقد كان رحمه الله يعتقد أن جو الحرية هو الجو الذي تنتعش فيه الدعوة الإسلامية وتنهض ، وفي كتابه قذائف الحق فصل بعنوان : ( لا دين حيث لا حرية ) وفيه يقول : ( لا أزال أكرر ما ذكرت في بعض كتبي من أن الحريات المقررة هي الجو الوحيد لميلاد الدين ونمائه وازدهاره ، وإن أنبياء الله لم يضاروا أو يهانوا إلا في غيبة هذه الحريات ،وإذا كان الكفر قديماً لم ينشأ ويستقر إلا في مهاد الذل والاستبداد ،فهو إلى يوم الناس هذا لا يبقى إلا حيث تموت الكلمة الحرة وتلطم الوجوه الشريفة ،وتتحكم عصابات من الأغبياء أو من أصحاب المآرب والأهواء ) [ قذائف الحق ص: 190]
ومما يتصل بهذا أن نشير إلى ما اشتهر عنه رحمه الله في سنواته الأخيرة من انتقاده اللاذع لبعض مخالفيه من أعضاء الحركات الإسلامية وشدته عليهم .
تلك الشدة التي لم تكن صادرة – فيما نرى- عن كراهية لأولئك المخالفين ،وإنما كانت تصدر عنه لأنه يرى في بعض آرائهم نوعاً من الجمود وضيق الأفق ، وهو يريد للدعوة أن تكون أرحب من هذا الذي يراه ضيق أفق وجموداً .
ونحن وإن كنا قد نخالفه في بعض هذا الذي ذهب إليه ،إلا أن حسن مقصده ونبل غايته رحمه الله لا بد أن يحملا كل مسلم غيور على التماس العذر له وتقدير أن تلك القسوة لا تنم عن مداهنة لأهل الباطل ،وإنما تنم عن غيرة صادقة على الدين وأهله والخوف من أن تؤدي تصرفات بعض الفصائل الإسلامية إلى التضييق على الحركة الإسلامية والحد من حرية الدعوة إلى الله تعالى .
ولذلك فإنه لما شارك أواخر عام 1988م في صياغة بيان يدين بعض مواقف الجماعة الإسلامية وقتها ،ورأينا في صيغة البيان شيئاً من القسوة على أبناء الجماعة الإسلامية وجنوحاً واضحاً نحو مداهنة أولي الأمر ، وكتب الشيخ محمود فايد رحمه الله مقالاً بمجلة الاعتصام ( في عدد جمادى الثانية 1490هـ -يناير 1989م) ينتقد فيه هذا البيان وما ورد فيه من تحامل على الشباب ، مبيناً أن مهمة العلماء لا تقتصر على وعظ المحكومين بل تتطلب وعظ الحاكمين معهم ، وأن الله لم يطلب من العلماء أن يمدحوا بل طلب منهم أن ينصحوا ،وذلك باب من أبواب الجهاد ، أقول : لما كتب الشيخ فايد هذا الكلام ذهب مندوب من مجلة الاعتصام للشيخ الغزالي يستطلع رأيه فيما كتبه الشيخ فايد فكان من رده رحمه الله أن قال بعد أن ذكر أنه يكره التطرف ويؤثر الاعتدال الذي لا يتعارض مع نص من كتاب أو سنة قال بحسب ما جاء في العدد المشار إليه من الاعتصام : ( وأخشى ما أخشاه أن يكون ضرب التطرف ذريعة إلى النيل من الإسلام نفسه ، وهو ما يمكن أن تشير إليه بعض الظواهر الواقعة في مجتمعنا المسلم ، ولذلك أُلح في توفير الحريات للصفوة الإسلامية أن تتحرك لأداء الرسالة ونفع الأمة في أيام هي أحوج ما تكون فيه إلى التماسك والاتحاد لمواجهة أعداء الله ) .
إن بعض المولعين بالمنهج الانتقائي يختصرون حياة الشيخ الغزالي رحمه الله في بعض مواقف أو آراء ينتزعونها من بعض كتاباته ، فيسقطونها على حياته كلها ويعتبرونها منهجاً مستقراً له ، فترى بعضهم يركز على ما كان للشيخ من آراء خالف فيها جمهور العلماء وبخاصة في قضايا المرأة ، وكان ينبغي أن توضع تلك الأقوال رحمه الله في سياقها الصحيح من أنها مجرد اجتهادات قد يعذر فيها لكنها في النهاية مجرد آراء خالفه فيها غيره من أهل العلم.
وترى بعضهم يركز على انتقاده للإخوان وهجومه الشديد على حسن الهضيبي رحمه الله ،مع أن الشيخ الغزالي قد تراجع عن ذلك فيما بعد وكتب في طبعة لاحقة من نفس الكتاب الذي انتقد الهضيبي فيه : ( في هذه الصفحات مرارة تبلغ حد القسوة، وكان يجب ألا يتأدى الغضب بصاحبه إلى هذا المدى، بيد أن ذلك - للأسف - ما حدث. وقد عاد المؤلف إلى نفسه يحاسبها وتحاسبه في حديث أثبته آخر هذه الباب ) [ من معالم الحق هامش ص: 216] ، وفي كتابه قذائف الحق ص: 106 يتحدث حديثاً مؤثراً عن الهضيبي وتواضعه ووصيته أن يدفن في مدافن الصدقة ،ويذكر أنه ذهب إليه قبل أن يموت بنحو عامين وأصلح ما بينه وبينه .
وترى بعضهم يركز على ما وقع منه رحمه الله من رد لبعض الأحاديث الصحيحة ، وبخاصة في كتابه ( السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث ) ،ويعتبر ذلك منه تحللاً من السنة كلها وقدحاً في حجيتها مع أن ما رده الشيخ من الأحاديث هو عدد محدود جداً ، وموقفه رحمه الله من السنة النبوية والدفاع عنها واضح وضوح الشمس ،وذلك كقوله في كتابه (دستور الوحدة الثقافية ص: 25): ( تواجه السنة النبوية هجوماً شديداً في هذه الأيام ،وهو هجوم خال من العلم والإنصاف ،وقد تألفت بعض جماعات شاذة تدعى الاكتفاء بالقرآن وحده. ولو تم لهذه الجماعات ما تريد لأضاعت القرآن والسنة جميعاً ؛فإن القضاء على السنة ذريعة للقضاء على الدين كله).
وإنك لتجد هذا المنهج الانتقائي الذي أشرنا إليه ماثلاً في كتابات محبي الشيخ وشانئيه على حد سواء ،وثمة فريق ثالث يشارك الفريقين السابقين في منهج الانتقاء ،وهو فريق لا يعنيه من تراث الغزالي رحمه الله إلا أن يبحث فيه عما يخدم فكره وتوجهه ، فإذا ظفر بعبارة هنا أو جملة هناك طار بها فرحاً غير عابئ لا بالضوابط الأخلاقية ولا بالمناهج العلمية ،فإلى الله المشتكى .

عبد الآخر حماد
عضو رابطة علماء المسلمين
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف