الأخبار
رجائى عطية
مدارات من همس الخاطر

من يتذكر الله ـ علي أي وجه ـ يدخل الله قلبه وعقله ـ شـاء الآدمـي أو لم يشأ ، وإذا دخل الله سبحانه عقل وقلب الآدمي علي أي وجه ولأي سبب واعتاد عقله وقلبه دخوله أخصبهما وباركهما .. يحصـل هـذا للشاكر وللساخط ، وللمؤمـن وللمتشكك المتحير .. بـل وللمعانـد المكابـر .. بل للكـاره المعادي ـ مادام لا ينقطع حضور الله في ذهنه ولـم ينس الله علي أي وجـه ـ فالكفـر هـو عدم المبالاة وعدم الانفعال وانعدام رد الفعل كلية بالنسبة لله عـز وجل عند الآدمي . ولذكر الله أكبر !
> > >
يبدو أنـه مـع غيبة أو ضمور أو ضحالة الأعماق ، لا يقبل آدمـي أن يعترف بأنانيتـه التي رافقته منذ مولده ، ولا أن يقر بأنها » المنجلة »‬ التي تحصد ثمار عمل وجهد وتعب ونَصَب الآخرين ، وأن إليها معظم العناء والتعاسة والشقاء ، وشيوع الفاقة ومعظم الشرور التي أصابت وتصيب دنيا الناس !!
> > >
يبدو أن العناية بداخل الآدمي وأعماقه ، هي الحبل الذي يرد إليه المعني والأمان وسط المخاوف المهولة التي يحفل بها عالم اليوم .. هـذا العالم المنطوي علـي حضارات مختلفة ، وعقائد وديانات مختلفة ، قد يشتط بعضها فيجافي أو يعادي الآخرين فينضب بالتبعية أثـر الدين في »‬ عمار الداخل ».. فهل يمكن لعموم البشر أن يستمدوا من »‬ معالم التقريب » بـين الأديان السماوية ، ما يجمعهم علي معتقدات روحية مشتركة ، مخلصة ومستقيمة ، تستقر في داخلهم وفي ضمائر سوادهم ، تساير علومهم ومعارفهم .. تعطيها وتأخذ منها كل ما تراه واقعًا وحقًا ومعقولاً ، وتحظي في مجملها بترحيب وثقة واحترام يقـي الإنسانية مـن حمـي التعصب والغيرة والعداوة !! ..
> > >
إحساسنا ـ علي اختلافنا ـ بفردية كل منا ، إحساس عميق شديد غامر ، بيد أن هذا الإحساس »‬ بالفردية » خالٍ تماما من أي اهتمام جدي بالجماعة أو الجنس ، وإجداب هذا الاهتمام بالمحيط الأوسع مـرده فيــما يـبدو إلي تمحور »‬ الذات » حول نفسها ، ودورانها باستمرار حول ما تشتهيه النفس وترنو إليه وتطمع في زيادته أو تقلق خوفا عليه .. فهي فردية عقيمة مجدبة في الغالب الأغلب ، تلهينا باستمرار عن القيام بأي اهتمام مخلص بمصالح ومستقبل جماعاتنا وجنسنا ، وتلهينا عن المجموع انكفاءً علي نفس كل منا ، فتحصرنا في أنانية »‬ الذات » !
> > >
من الغريب اللافت ، ربما لغيبة أو نضوب أو ضحالة الأعماق ، أننا لا نفكر حتي الآن في مثالب »‬ الأنانية » الآدمية وأضرارها الجمة الحاضرة والمستقبلة ، وأخطارها الهائلة القادمة ـ تفكيًرا هادئًا جادًا يلتفت إلي أصلها أو إلي توغلها واتساعها وانتشارها في كل مكان من أرضنا !!.. كأن كلاّ منا ينافس الآخرين بكل قواه علي اقتسام الدنيا إن لم يكن علي التهامها !! وكأن هذه المنافسة العجيبة ـ الحديثة والقديمة ـ لازمة لبقاء بشـريتنا لا لفنائها !
> > >
من اللافت أنه رغم الطفرات المذهلة التي حققتها الحضارة الحالية ، لا يزال أغلب البشر حتي اليوم يشبهون آباءهم وآباء آبائهم في الكثير من حيث المحاكاة والآلية والشكلية والسطحية ! وقد يجاوزون ذلك إلي التحسر علي الزمن الفائت ومحاولة رد الحاضر إليه ! ولا سبيل إلي احتواء ثم زوال هذه »‬ المشابهة » ، إلاّ بزيادة العقل والفهم ، واتساع رقعة العاقلين الفاهمين ، وامتداد تأثير هذه الرقعة يوما بعد يوم إلـي سـواد الناس .. بفعـل الاستنـارة والإقتداء التدريجي لا الخطابـة أو الفصاحة أو الضغط !
> > >
يعتمد الآدمي إذا لاحظ تفوق قدرته علي غيره ، علي هذه القدرة في تأكيد تفوقه وزيادته وتكريسه ، ويطيب له ذلك ثم يراه حقا له علي الآخرين يجب عليهم التسليم له به ، ويطيب له هذا التسليم ويرضيه أن ينتشر ، فإذا انتشر أحس أنه أسمي من الآخرين ، وربما سري هذا الإحساس منه إلي عشيرته ، فيحس وتحس هي الأخري معه بامتيازها علي غيرها ، وتجتهد في تفسير ذلك الامتياز لقطع الجـدال بشأنه . وكل تفسير مقبول مادام يستهدف تحقيق هـذا المقصود ومادام يجد من يقبله !!!
> > >
آلامنا الحاضـرة تنسينا آمالنا ورؤيتنا لمآلنا ـ ومع تلك الآلام نوزع ألوان الغضب واللعنات والعداوات علي هـذه أو تلك من الجماعـات الأخري ممن نظن ـ مخطئين أو مغالين ـ أن لهم دخلاً في تلك الآلام .. وذلك دون أن نلتفت إلي ما هو نصيبنا من أسباب شقائنا بدايةً ونهايةً لأننا ننتظر من الغير أن يكون مثالاً للعقل والصبر وصدق الوعد والاستعـداد للمعونة والخدمة ـ وللإنصاف والاتزان والاستقامة ، ولا ننتظر من أنفسنا مثل ذلك ! .. ولو انتظرناه من أنفسنا وطالبناها به لاستقام أمرنا وأمر غيرنا ، ولما شقينا وشقي الآخرون بسبب الحماقة وقلة الصبر وإخلاف الوعد والعهد والبخل بالمعونة والخدمة ـ والبعد عن الإنصاف والاتزان والاستقامة .
> > >
محاولـة رد الدنيا أو الناس إلي حضارة سابقة محلية أو إقليمية كائنة ما كانت ، نوع من الحلم والوهم والردة .. هذا ولا يمكن أن تؤدي إلي شيء باق . موجات وتيارات الاسترابة والشك والغموض واللبس ، أو موجـات القلـق وعدم الأمان والشعور بفقد الاستقرار التي يشعر بها الكثيرون في زماننا .. إذ يستحيل أن يرد أبناء هذا العصر الذين ولدوا فيه وتشربوا من بحره ، إلي غير واقعهم وزمانهم ومكانهم ، لا في عين العقل ولا في نظر التاريخ !!
> > >
لم يعد فينا إلاّ النادر جدًّا جدًّا الذي يلتفت نحو الرب تبارك وتعالي التفاتًا جادًا .. يخشاه دون أن ينساه لحظة .. يدهشه بينه وبين نفسه اندفاع الناس المخبول في الجنون والغفلة والأنانية التي لا يعرفون لها حدًا يحدها .. يملؤهم تيهًا وغرورًا كثرة ما تعلموا وقرأوا وألفوا وبلغوا وحللوا واكتشفوا وأثبتوا ونفوا وعلموا وارتقوا وتماسوا وحكموا وقادوا . وهذا كله قبض ريح عاصف يعصف بدنيانا .. لأنه أصلاً تفكيك وبعثرة وتمزيق وتشتيت .. يطرد ولا يجمع .. ويفرق ولا يضم، وينفر ولا يلحم .. فهو في أعماقه وجذوره هدم محصن بعيد كل البعد عن الإنسانية الصادقة الحقيقية . لم ينج فيه من الآفات وشدة الأنانية إلا نادر النادر من عظمائه وأعلامه !
> > >
يبدو أن مشكلتنا الأساسية كامنة في أعماقنا ، هذه الأعماق التي تبتعد الآن أشد البعد عن العلاج الحقيقي وعـن المعالجين الموفقين .. لأنها في أشد الاحتياج إلي التغيير المبكر الذي بات أساسيًّا جذريًّا وضروريًّا لكي يجنب البشر عواقب المخاطر التي ليس لها حدود والتي حملهم إياها ـ دون أن يشعروا ـ قبولهم لنواتج الحضارة الوضعية التي قبلوها وامتصوها من غير أن يفكروا في احتياجها الشديد للاتزان والتعقل والتأني لتفادي خطورتها .. هذه الخطورة التي ليس لها آخر مع الاندفاع والعجلة والنزق الذي نري عليه غالبية الآدميين اليوم ، كأنهم قد فقدوا الاحتياج إلي الصبر والرزانة والتؤدة مع ما اكتسبوه من التحضر الخارجي الذي يدعونه ويحتجون به كلما ارتفع لهم صوت !!
> > >
حياة الأحياء ومن بينها حياة البشر ـ نظام كوني إلهي جـليل جدًا ، يجمع بين شدة البساطة وشـدة التعقيد والتركيب .. أما شدة البساطـة فلكـي يستفيد منها الحي في تدبير معاشه خلال عمره قصر أو طال حسب دوره وترتيبه في الخليقة ، أما شدة تعقيده وتركيبه فذلك لاستمرار الحياة بأسرها وعلي اختلاف صورها وأجناسها وبيئاتها من حيث مسارها العام في الاتجاه المراد لها الذي تتضامن فيه نواميسها ونواميس الكون لتحقيق المشيئة المقصودة من ذلك المراد .. هذا كله لا يراه الحي كائنا ما يكون ، إلاّ من ثقب ضئيل شديد الضآلة ومن مسافة ومدي بالغي القصر والسطحية!!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف