الأهرام
محمد ابو الفضل
التمدد الإقليمى لمصر ضرورة سياسية
على مدى الأسبوعين الماضيين تلقيت ردود أفعال كثيرة على مقالى «حان وقت التمدد الإقليمى لمصر» و«أبوالغيط ضد التمدد الإقليمى لمصر». وكلها تدل على أن القضية تشغل بال أفراد وجهات مختلفة. هناك من يرى أن مصر قادرة على القيام بدور كبير ومؤثر سياسيا فى المنطقة. وثمة من يعتقد فى أهمية مواصلة الانكفاء.

كل جانب يملك حجج ومسوغات تجعل وجهة نظره صحيحة ومنطقية، لكن أحيانا تتداخل فيها العاطفة مع العقل. من قالوا بحتمية التمدد لديهم أحلام عظيمة لبلدهم وطموحات فى أن تكون لاعبا محوريا. ومن ذهبوا إلى أن مصر للمصريين فقط، امتلكوا أيضا الأداتين. الفرق فى ترتيب الأولويات والاستعدادات. لم أجد مصريا يقف مع الانزواء التام بلا زيادة أو نقصان.

لست معنيا بترجيح كفة فريق على آخر، واحترم تماما السفير أحمد أبوالغيط الأمين العام للجامعة العربية الذى خصنى بحوار شيق حول هذه القضية. وأقدر رفضه الحاسم لأى تمدد خارج القطر، مستندا لخبرة سياسية طويلة. لدى قراءة ربما تعجب معالى الأمين العام أو لا، لكنها بعيدة عن العواطف والأحلام والخيالات، وبعيدة أيضا عن الحذر والتريث والانكفاء.

فى مجملها ترفض الفكرة الرائجة أن التاريخ يعيد نفسه، والتمدد خارج القطر سوف يكرر السيناريوهات التى واجهتها مشروعات سابقة، تبناها كل من على بك الكبير ومحمد على وجمال عبدالناصر. عندما تحدثت عن طموحات إقليمية متعقلة لمصر، استخدمت كلمة تمدد، ولم أتحدث عن توسع أو سيطرة. ولفت نظرى الكاتب العراقى صلاح نصراوى إلى ضرورة ضبط المفهوم فى هذه الحالة، لأن المقصود بالتمدد معجميا، وهو جوهر المسألة المطروحة، زيادة سطح الجسم أو حجمه أو مساحته أو طوله. وفى الانجليزية فإن كلمة stretch تعطى معانى من بينها التمدد، بما أصبح معروفا بالقوى الناعمة.

فى المعاجم الأجنبية يبدو الاستخدام الأكثر شيوعا فى الأدبيات الجيوسياسية هو التوسع expansion وهو «إستراتيجية سياسية لمد أراضى الدولة من خلال الزحف على أراضى أمم أخرى».

بالطبع لم أقصد المعنى الثاني، ولا توجد قوة إقليمية مهما تبلغ قدرتها العسكرية والاقتصادية تستطيع القيام بتوسعات أو فرض هيمنة مطلقة على دول المنطقة والحفاظ عليها، لكن هناك محاولات عسكرية حثيثة من قبل إيران وتركيا، ما يجعل تمددهما الراهن ينطبق عليه مفهوم التوسع.

من الصعوبة أن يكون التمدد المصرى يرمى إلى استحواذ على مقاليد الأمور فى منطقة تتجاذبها قوى إقليمية ودولية عديدة، بعضها متربص بالفعل بنا، وفى عصر من أهم سماته السعى للتخلص من فكرة القيادة الواحدة.

ربما تكون الولايات المتحدة، وهى قوة عظمي، نجحت على مدى العقود الثلاثة الماضية فى فرض هيمنتها على مناطق كثيرة من العالم، لكن ما نراه من تراجع لهذه القوة وصعود لأخري، مثل روسيا والصين وأوروبا، يشى بأن النظام الدولى تتغير ملامحه التقليدية ويعاد تشكيله على قواعد تراعى القيادة الجماعية، وهو ما ينسحب على الفضاء المحيط بنا.

على المستوى الإقليمي، لا توجد ولن توجد الدولة التى تستطيع فرض نفوذها بمفردها. نعم هناك محاولات من قبل إيران وتركيا، غير أنها لم تفلح. وعلى العكس التمدد الذى تحول إلى توسع من الدولتين استنفر أعداء وأصدقاء فأعلنوا رفضهم للمنهج الذى تتبناه طهران وأنقرة.

هذا النمط يؤدى إلى ضربات قاسمة لهاتين القوتين، لأن كلا منهما يملك مشروعا قوميا للهيمنة وتجاهل توازنات دولية صارمة، ربما قام فاعلون فيها بغض الطرف عن توسعات إيران فى العراق وسوريا ولبنان واليمن، لكن حانت لحظة المواجهة.

كما أن التوازنات الهشة فى لحظة معينة سمحت لتركيا بالتغول والاعتداء على حرمة الأراضى العراقية والسورية، ومد البصر إلى الخليج وإفريقيا، وهى نفسها التوازنات التى تستعد للتصدى لأحلام إحياء الخلافة العثمانية، بعدما تجاوز أصحابها الخطوط الحمراء المسموح بها.

الحاصل أن مصر تدرك التشابكات والمعادلات التى تتحكم فى العالم. والدليل أن القيادة الحالية أجرت أكبر عملية عبور سياسى فى تاريخ مصر الحديث بأمان وسلام، عندما تجاوزت المصدات الإقليمية والحواجز الدولية التى وقفت أمامها عقب ثورة 30 يونيو 2013.

القيادة التى تتمكن من تخطى العقبات والتحديات وتطبيع العلاقات مع الغالبية الكاسحة من دول العالم وتملك تحالفات متينة فى الشرق والغرب والشمال والجنوب، من المؤكد أنها تعى طبيعة التطورات الإقليمية ولن تنجرف وراء أحلام زعامة وفقط، فهى تملك رؤية إستراتيجية مكنتها من العبور الآمن وسوف تمكنها من الوجود الفاعل.

من ينظر إلى خريطة العلاقات مع دول كثيرة يتأكد من هذه المسألة، ومن ينتبه إلى الحضور المصرى الإيجابى فى أزمات متعددة يعرف المكانة التى وصلت لها مصر الآن ويثق فى قيادتها. ومن يراقب النتائج التى وصلت لها مع خصومها الجدد والقدامى يعى أن هناك عقلا يفكر فى الخطوة المقبلة قبل أن يضع قدمه على الصعيد الخارجي.

التمدد الناعم المنشود يتناسب مع الطريقة التى يجرى بها بناء مجموعة كبيرة من المشروعات الحيوية فى الداخل. لم يجرؤ أحد على التفكير فى التمدد بمفهومه الثقافى والسياسى عندما كانت البلاد تلملم جراحها. وبعد تجاوز أزمات كثيرة، والبدء فى جنى الثمار من الواجب أن تكون هناك طموحات تتناسب مع الإرادة والقدرات.

التمدد مطلوب للحفاظ على الانجازات فى الداخل، لأن الانكفاء مهما تزايدت درجته لن يحمينا من المؤامرات التى تأتينا من الخارج. هو سلاح للردع وليس الهيمنة فى حد ذاتها، ويأخذ فى حسبانه التوقيت المناسب والتوازنات الإقليمية والدولية. وهذا هو الفرق بين تفكير السياسى والدبلوماسي.

المشكلة أن من يضربون المثل بالمشروعات المصرية التوسعية التى أخفقت، وبعضها مضى عليه قرون، يتجاهلون الفارق الزمنى والظروف الحاكمة فى كل عصر. ربما لم تتغير كثيرا تقديرات القوى الدولية، وإن اختلفت مسمياتها، لكن القيادة الوطنية التى تقود البلاد حاليا تغيرت ولديها من الحصافة ما مكنها بالفعل من تجاوز عواصف عاتية.

الرغبة فى التمدد حالت دونها ظروف عربية، ترى من حقها منازعة مصر الزعامة العربية والإقليمية. والآن مصر نفسها تؤمن بالقيادة الجماعية، وتعى جيدا ما يدور حولها وما يدبر لها، ومشروعها الرشيد يقوم على التمدد العاقل المتوازن.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف