الجمهورية
محمد أبو الحديد
مصر.. ودبلوماسية الغاز الطبيعي
حضرت حواراً نظمته الجريدة هذا الأسبوع مع وزير البترول طارق الملا امتد لأكثر من ثلاث ساعات. لم يتوقف فيها الوزير عن الكلام.. لم يحجب معلومة.. ولم يتردد في الإجابة عن أي سؤال.
ما أنجزه قطاع البترول في السنوات الأربع الأخيرة. فترة الرئاسة الأولي للرئيس السيسي. ملحمة حقيقية كبري خاضها مقاتلون في القطاع لا يقلون صلابة عن المقاتلين من الجيش والشرطة ضد الإرهاب في سيناء.
لا أريد أن أستبق نشر الحوار بكافة تفاصيله. لكن فقط أقول إن هذه الملحمة. حين يطلع عليها المصريون. ويدركون ماذا تعني لمستقبلهم. تغني ــ وحدها ــ عن أي حملة انتخابية رئاسية لدعم السيسي لفترة رئاسة جديدة.
شغلتني. وتشغلني في هذا الحوار وقبله قضية الغاز الطبيعي. ليس بالنسبة لمصر وحدها. ولكن كقضية إقليمية وعالمية. وليس كمجرد سلعة. ولكن كأداة سياسية تلعب الآن. ومرشحة لأن تلعب أكثر في المستقبل دوراً أساسياً في العلاقات السياسية الدولية. لا يقل عن الدور الذي لعبه البترول.
الغاز الطبيعي الذي تفجر ــ بالنسبة لمصر ــ من حقل "ظهر" في المياه الاقتصادية المصرية شرق البحر المتوسط. وفي هذه الفترة الزمنية بالذات. تشعر عندما تتأمل في حكايته. أنه التقاء الكرم الإلهي بالجهد البشري والإخلاص الوطني. وأن مصر "محروسة" بالفعل بإرادة ربانية. وأن الله حباها من الثروات الطبيعية ما يغنيها ويقيلها من عثرتها إذا تعثرت.
هذه الثروات موجودة بالتأكيد من عشرات السنين. لكنها لم تظهر.. لقد ظهرت فقط حين أصبحنا نستحق أن يكشف الله لنا عنها ويكافئنا بها.. ليس فقط لأننا في أزمة اقتصادية. ولا لأننا نواجه بلاء الإرهاب الذي يكلفنا الكثير. ولا لأننا نتطلع إلي إعادة بناء بلدنا.
لقد ظهرت هذه الثروات. بالاضافة إلي هذه الأسباب. بل قبلها. لأنه أصبحت هناك قيادة لديها رؤية استراتيجية مستقبلية واضحة. وطموحات مشروعة. واستعداد لبذل كل الجهد المخلص لتحقيق هذه الرؤية. وقدرة علي تعبئة كل العاملين الوطنيين للمشاركة في إنجازها.
قبل عشر سنوات بالتحديد. كانت مصر في المركز الـ 19 في ترتيب دول العالم المنتجة للغاز الطبيعي الآن. بإنتاج حقل ظهر في شرق المتوسط. ومن بعده إنتاج آبار حقل "نورس" بمنطقة الدلتا. تبدأ مصر المنافسة علي المراكز العشرة الأولي. وهو ما لم نكن نحلم به قبل عشر سنوات.
لا أستطيع الحديث في "الفنيات" ولا في التفاصيل التي لا يجوز الحديث فيها إلا للمتخصصين. لكني فقط أتناول قضية الغاز من جانبها السياسي. سواء الإقليمي أو العالمي.
وهنا. لابد من تسجيل عدد من الحقائق المهمة:
1 ــ ثبت أن تعيين الحدود الاقتصادية البحرية مع قبرص واليونان في شرق البحر المتوسط. ومع السعودية في البحر الأحمر. كان خطوة عبقرية نابعة من نظرة بعيدة المدي.
هذا التعيين هو الذي أتاح عند اكتشاف حقل "ظهر". أن يصبح هو وإنتاجه ملكية خالصة لنا لأنه يقع في نطاق مياهنا الاقتصادية. وسينطبق ذلك علي أي حقل آخر يمكن اكتشافه في المستقبل وهذا وارد بتأكيد الخبراء أن شرق البحر المتوسط يعوم علي بحيرة هائلة من الغاز الطبيعي.
هذا التعيين أيضا. هو الذي أتاح لنا أن نبدأ منذ أيام في رسم أول خريطة لأعماق منطقتنا البحرية الاقتصادية في البحر الأحمر. وهي منطقة بكر. محملة بالكثير مما ستظهره عمليات التنقيب في المستقبل.
2 ــ اكتشافات الغاز في شرق المتوسط تضم دولاً عديدة ليست كلها علي نفس الدرجة من الاستقرار ولا كلها علي وفاق سياسي.. فهذه الدول هي مصر ــ إسرائيل ــ لبنان ــ فلسطين ــ قبرص. وهناك ــ كما نعلم ــ منازعة بين إسرائيل ولبنان علي جزء من منطقة الاكتشافات. ومنازعة بين تركيا وقبرص. ثم حقوق الشعب الفلسطيني في مياه البحر المتوسط قبالة قطاع غزة.
في البحر الأحمر هناك بالاضافة إلي مصر والسعودية. والسودان. وأريتريا. واليمن. ثم الأردن وإسرائيل إذا تحدثنا عن خليج العقبة.
3 ــ الغاز الطبيعي. بشكل عام. كسلعة. ليس له سعر عالمي كالبترول مثلاً رغم أنه أصبح. من حيث الأهمية الاستراتيجية. الآن. وفي المستقبل. لا يقل عن البترول.
ورغم وجود بورصات عالمية لبيعه في نيويورك ولندن وجنوب شرق آسيا. إلا أن أسعاره تتحدد باتفاقيات ثنائية بين البائع والمشتري. وليس من خلال آليات جماعية.
وأحد أسباب ذلك. أنه لا يوجد حتي الآن تنظيم يجمع الدول المنتجة أو المصدرة له. سواء علي أي مستوي إقليمي. أو عالمي. علي غرار منظمة الدول المصدرة للبترول ــ أوبك ــ مثلاً. أو نظيرتها الإقليمية ــ أوابك ــ التي تجمع الدول العربية المصدرة.
هذه الحقائق الثلاث. تطرح. عندي عدة أسئلة أيضا:
* هل الأفضل للغاز الطبيعي كسلعة عالمية. أن يستمر تحديد سعره. كما هو الآن. باتفاقيات ثنائية بين البائع والمشتري. أو أن يكون له سعر عالمي موحد في سوق عالمية واحدة. يتعرض للتقلبات صعوداً أو هبوطاً وفقاً للعرض والطلب كما الحال بالنسبة للبترول؟!
* هل الأفضل للدول المنتجة والمصدرة للغاز الطبيعي أن تبقي علي حالها أم أن يكون هناك تنظيم عالمي أو إقليمي يجمعها. ويحمي مصالحها وحقوقها. ويحدد سقوف الإنتاج والأسعار بما يحقق التوازن في السوق العالمي علي غرار ما تقوم به منظمة "أوبك" مع شركائها من كبار المنتجين والمصدرين من خارجها مثل الولايات المتحدة وروسيا بالنسبة للبترول؟!
* هل يمكن أن يصبح للغاز الطبيعي ــ كأداة سياسية ــ دور أكبر في السياسة الدولية. وأن تلعب "دبلوماسية الغاز" دوراً في تحقيق التوافق الإقليمي أو العالمي بين الشركاء المتنازعين.. أي أن يتحول الغاز الطبيعي إلي مفتاح لتسوية النزاعات الإقليمية. وتحقيق الاستقرار والسلام في العلاقات الدولية؟! "الغاز الطبيعي علي سبيل المثال يلعب دوراً مهماً في العلاقات الروسية الصينية والروسية التركية".
* أخيراً. هل يمكن أن تأخذ مصر بزمام المبادرة في هذا المجال. سواء علي المستوي الإقليمي أو العالمي. بعد أن أصبحت علي أعتاب قائمة كبار المنتجين. وغداً كبار المصدرين. وتستعد. باعتبارها الدولة الأكثر استقراراً. والأكثر استعداداً بما تملكه من بنية تحتية وكوادر بشرية. لأن تصبح مركزاً إقليمياً للطاقة؟!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف