الوطن
رجائى عطية
الانسلات من الدين للاتشاح الكاذب به!!
من مبتليات العصر، جنوحات طوائف المتطرفين وما يقارفونه من جرائم ضد الإنسانية وضد السلام، وأسوأ ما فى هذا البلاء أن هؤلاء الجانحين يتوسلون بالدين لهدم الدين ثم الركوب بالمغالطة فيه على رقاب الناس!

يزعم هؤلاء المغرضون أن مرجعيتهم فيما يقارفونه من جرائم القتل والاغتيال والذبح والسحل والإهلاك والتدمير هى مرجعية دينية، والأديان ليس فيها ما يبتدعونه، بل تشجبه وتدحضه وتدعو إلى هداية الضمير وصلاح الأعمال والإخاء الإنسانى وعمار الحياة.

من هنا توفر هؤلاء وهم يتقدمون إلى الناس باسم الدين، على تشويهه ليستقيم لهم الغرض والمراد، فابتُليت الأديان وابتُلى الإسلام ليس فقط بجنوحهم واتشاحهم الكاذب بالدين، وإنما أيضاً بتأويلاتهم المغلوطة التى يخادعون بها البسطاء، وهذا فى واقعه انسلات من الدين، بإنكار حقيقته وإنكار مبادئه وقيَمه وأحكامه، والأدهى أن هؤلاء يعودون فيتخذون من «الدين المنتحل!!» بأغاليطهم الضليلة، سلّماً للركوب على رقاب الناس، وهدم كل قيم الأديان والإنسانية وُثُوباً إلى أغراضهم الدنيئة الضريرة.

الإسلام دين الرحمة والمرحمة، و«الرحمن، الرحيم» من أسماء الله الحسنى، و«الرحمة المهداة» صفة تزين اسم نبى البر والرحمة عليه الصلاة والسلام، فإذا بهؤلاء الجانحين يضعون العنف والقسوة والإهلاك محل الرحمة!!

والإسلام يقدس الروح الإنسانية، بل ويحترم روح الطير الحيوان، وينوه بأن الحياة منحة ربانية مقدسة، محوطة بتكريم الله ورعايته للإنسان الذى كرمه ربه وفضَّله على كثير من خلقه تفضيلاً، فإذا بهؤلاء الضالين يقلبون هذه القيم إلى القتل والذبح والاغتيال وإعدام الحياة حيث كانت!!

الإسلام سبق العالم لسَن قواعد وضوابط للحروب إذا وقعت، فكانت شريعته أولى الشرائع التى سنّت «قانوناً للحرب» للتخفيف من ويلاتها وضبط جموحاتها لأن السلام فى النهاية هو الغاية، فنهى الإسلام عن التخريب والإتلاف والإفساد أياً كانت المعاذير، وحمى من يقاتل المسلمين من أن يُغْدر به أو يؤذَى إذا وقع فى الأسر، فكفل للأسير رعايته، فجاء فى وصف المؤمنين بالقرآن: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} (الإنسان 8)، وحض القرآن على المَنّ على الأسير بحريته، وجعل المن سابقاً للفداء، فقال تعالى: {فَإِمَّا مَناً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} (محمد 4)، ونهى الإسلام عن المساس بالشيوخ والنساء والأطفال، وعن المساس بالزرع والضرع، ووضع ضوابط يشهد بها العلماء لترويض وحشية الحرب والتخفيف من ويلاتها، ولم يستبعد الأسير من هذه الرعاية مع أنه حارب وقاتل.

فإذا بالجانحين الإرهابيين المتشحين كذباً بالإسلام يقلبون هذه المبادئ الدينية الإنسانية إلى نقيضها، فيبطشون بالمسالمين، ويضنون عليهم بما أعطاه الدين حتى للمقاتلين، فيُعملون فى المسالمين، وفى الشيوخ والنساء والأطفال، الترويع والذبح والقتل والإهلاك، ويعصفون بالحياة وسبل العيش تدميراً وإتلافاً!!

الأديان تدعو إلى عمار الحياة، وهؤلاء الجانحون والإرهابيون يسعون بجرائمهم إلى دمار الحياة!

والأعجب، أنهم يتقدمون بهذا «الدين المنتحل!!» المخالف لكل قيم ومبادئ وأحكام الدين، ليركبوا على رقاب الناس بدعوى أنهم حماة الدين الراعون له الحريصون عليه!!

الدين الحقيقى والغرض الملبوس للمتشحين كذباً بالدين!!

من المفارقات العجيبة، أن هؤلاء الضالين يجنحون عن الإسلام باسم الإسلام، وهذا جنوح غريب، بمنطق أعوج ضرير.. وأشد ما فى هذا المنطق الجانح من عوج وعماء أن هؤلاء فى جنوحهم عن صحيح الدين، يفرطون فى القيمة التى أعطاها الدين لبنى الإنسان!!

لقد جاء بالقرآن الحكيم أن الخالق عز وجل قد كرم الإنسان وفضله تفضيلاً على كثير من خلقه، فقال تعالت حكمته: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء 70).

وترى معالم هذا التكريم فى غير موضع يومئ إليه الكتاب المجيد، فيما خص به الإنسان من نعمة العقل الذى نوَه به القرآن بكل خاصية من خصائصه ووظيفة من وظائفه، لا تعادله أو توازيه قدرة الفهم أو التمييز الموجودة بدرجات متفاوتة لدى غيره من الكائنات، وخصه بنعمة المخيِّلة التى ينفرد بها ويستحضر ويتخيَّل بها الماضى، والغيب، ويستشرف المستقبل، هذه المخيِّلة هى التى جعلت له ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، وخصه الله تعالى بنعم لا تعد ولا تحصى، وهيأه بالقدرات الكامنة فيه التى مكنته من الانتفاع بها.

نعم، قد يعرف الحيوان أو يستفيد من شىء أو آخر من هذه النعم، وقد ترى ذكاءً فى بعض المخلوقات، وترى فى مملكة النحل نظاماً دقيقاً وإدارة محكمة، وترى فى مجتمع النمل نظاماً محكماً فى الاقتصاد، على أن هذه المخلوقات لم ترتفع بفضيلة الدين التى ارتفع بها الإنسان.

قيم الدين

ارتفع الإنسان بالدين لأنه فضيلة ترفع، فقوامه إيمان وتصديق، وشريعة وسنن، وأحكام وعبادات ومعاملات.. ففى الدين رفعة الإنسان وتميزه عن كل الخلائق والكائنات.

فى الدين سمو بالإيمان، واتجاه عارف مختار إلى الله رب العالمين، وعزيمة مختارة مريدة، تدع الشر وتُقبل على الخيرات وتستبق إلى المعروف.. وبمنظومة قيمه وأخلاقه وسجاياه وشمائله، يرتفع الإنسان عن الغرائز، ويسمو فوق الشهوات، ويلتمس طريقه من محبة الله بحب مخلوقاته، وإقامة جسور المحبة والمودة والإيلاف بينه وبينهم، ويقيم سلوكه على سنن الحق والعدل والإنصاف، ويعطر صلاته وعلاقاته بالوفاء والصدق والحلم والأمانة، وبالإيثار والكرم والجود والعطاء، وبالرحمة والعطف والصفح والمغفرة، وبالرفق واللين، وبالتواضع وخفض الجناح، وبذل الفضل من ماله وإمساك الفضل من لسانه.. فيكون عنواناً بين كل الخلائق لما أودعه الله فيه من عقل وقدرة على الاختيار تلهمه الخير والتقوى، والرحمة والمعروف.

وحين يتطرف الإنسان، يهجر دون أن يدرى ما رفعه الله به، فيودِّع سجايا الكمال والجمال التى يعطيه الدين إياها، وينحدر إلى رغاب وغرائز وجنوحات ليست من الدين، ولا يفقه أنه فرط بذلك فى أعز ما منحه إياه ورفعه به الدين من قيم ومن كريم الشمائل وفيوض الرحمة والبذل والعطاء والإيثار والإيلاف.

قد قست قلوب الذين يشيعون الفساد فى الأرض، ويدمرون ويقتلون النفس التى حرم الله، ويقطعون الرقاب، ويهلكون الزرع والضرع، وينشرون الخراب والدمار.. جفت لديهم ينابيع الرحمة والرفق والإيلاف، فانخلعوا من الدين الذى كرمهم الله ورفعهم به، فالدين محبَّة ورحمة.. محبَّة لله وفى الله لكل مخلوقاته، ومحبَّة للخير والرفق والمعروف، ومحبَّة للعمل الصالح والبِر والجود، ومحبَّة للتقوى وتزود بها وعمل صالح على مقتضاها.

فى هذه الشمائل القيمة الحقيقية التى يمنحها الدين للإنسان، وهى آية ما كرَّمه الله تعالى ورفعه به بين جميع مخلوقاته.

هذا هو الدين.. محبَّة وخيرٌ، وبرٌّ ومعروف.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف