الأخبار
رجائى عطية
مدارات - بل تصويب الفهم وإيقاظ العقول

درجنا تعبيرًا عن التجديد ، علي استخدام مسمي » تجديد الخطاب الديني »‬ ، وهو تعبير لا يحتوي حقيقة التجديد وأبعاده ومراميه ، فالتجديد ليس مجرد تجديد في أسلوب الخطاب أو في أسلوب الدعوة ، وإنما هو تجديد في الفهم ، فلا جدوي من خطاب تجديدي لا يصل إلي هذه الغاية . الفهم هو قوام كل شيء ، وصوابه هو المرجو لصلاح الحياة والأحياء .
وقد حرصت فيما صدر لي أخيرًا ، أن يكون عنوان الكتاب »‬ تجديد الفكر والخطاب الديني » ، وتعمدت أن يكون الفكر مقدمًا علي الخطاب ، لا تهوينًا من شأن وقيمة الخطاب ، وإنما للفت الانتباه أن تجديد الفكر هو الغاية والمرام الذي يتجه إليه كل خطاب تجديدي ، سواء في الدين أو في الثقافة أو في التربية والتعليم أو في الفن أو في الأدب أو في القيم الاجتماعية .
والعقل هو مناط التفكير والفهم ، فلا تفكير ولا فهم بغير عقل ، وقد هالني أخيرًا جملة تعليقات سابقة ولاحقة علي قرار السعودية إعطاء حواء بعضًا من حقوقها ، فسمحت لها بقيادة السيارات علي عكس ما كانت قد جرت عليه الأعراف هناك .
ففي الوقت الذي رحب فيه كل أصحاب الفهم و العقول ، في السعودية وفي غيرها من بلدان العالم ، بهذا القرار الرشيد الذي يرد لحواء بعض حقوقها ، هالني تصريحات سابقة ولاحقة شاذة وجانحة ، توري بسبات العقول ، ومن ثم انعدام الفهم ، ومن ورائهما انعدام الرؤية والقدرة علي التزام الصواب .
العقول المغيبة والفهم الأعوج !

أسفت جدًا وهالني ما قرأته من تعليقات البعض علي منح المرأة الحق في قيادة السيارة ، وكان الأسوأ فيما صدمني ـ أن كل المتقولين بالفهم الملبوس ممن أطالوا اللحي ، وأمسكوا بالمسابح ، واتخذوا لأنفسهم مظهر التدين الحق ، الفاهم الأوحد للدين ، والمالك لكل زمام الحياة بما فيها من علوم النفس والطب والتشريح والاجتماع !
قال أحدهم إن المرأة تصبح بهذا صاحبة حرية تذهب إلي حيث تشاء عندما تشاء صباحًا ومساءً ، وقد يتصل بها فاجر أو فاسق ويواعدها لأنها أخذت حريتها ، وكأن الحبس هو الأصل ولا فضيلة بغيره ، والحرية شذوذ غير مقبول يجب أن تحرم منه بنات حواء !!
وقال آخر إن المرأة إذا قادت السيارة ، ستكشف وجهها ، وستسافر بدون محرم ، وستكون الفرصة مهيأة لها للالتقاء بالشباب والشابات ، والتبرج والاختلاط بالرجال ، ونحو ذلك !!
وقال ثالث إن المرأة عندها »‬ نقص في العقل » .. وأضاف قائلاً : ما رأيكم إذا ما اطلع »‬ المرور » علي أن الرجل ناقص عقل وليس عنده سوي نصف عقل . هل سيعطيه الرخصة ؟! إذن فكيف تعطي المرأة ، رخصة للقيادة وهي لا تملك إلاَّ نصف عقل ، وإذا خرجت إلي السوق ينقص نصف العقل إلي النصف ، فلا يبقي لديها سوي ربع عقل !!!
وبملء فمه وثقته طفق يقول : لا يليق بالمرأة قيادة السيارات وهي لا تملك إلاَّ ربع عقل !!!
ويبدو أن القائل لم يسمع بالملكات اللاتي حكمن دولاً عبر التاريخ ، في العالم بأسره ، ولم يصل إلي علمه نبأ أنديرا غاندي ، ولا مرجريت تاتشر ، ولا بنازير علي بوتو ، ولا السيدة بندرانيكا رئيس وزراء سريلانكا ، ولا أنجيلا ميركل مستشارة ألمانيا لعدة دورات ، ولا تيريزا ماري باي مواليد أكتوبر 1956 التي تبوأت رئاسة الوزارة البريطانية من عامين ، ولا باقي السيدات اللاتي تبوأن الحكم أو رئاسة الوزارة أو حمل الحقائب الوزارية المختلفة في كل بلدان العالم ، ولا سمع في الجوار وفي تاريخ الإسلام عن الشاعرات المسلمات في زمن الدعوة وما تلاه ، ولا تناهي إليه من القمم الأدبية في العربية : سهير القلماوي وبنت الشاطئ وأمينة السعيد ، ولا شيء عن الدكتورة سميرة موسي عالمة الذرة التي اغتيلت في الولايات المتحدة ، أو عناقيد الفن أم كلثوم وغيرها ، ولا علم شيئًا عن النساء اللاتي نبغن في الطب والهندسة وفي العلوم وفي الفقه وفي الرياضيات وفي الذرة ، وفي علم النفس والقانون والمحاماة .
ولأنه فيما يبدو منقطعٌ عن الحياة ، فلم يسمع شيئًا من ذلك ، ولا دار بذهنه من ثم أن تكون هذه القمم بربع أو نصف عقل ، ولا شغل باله بأن المرأة اليوم وفي التاريخ المعاصر لم تعد تلك التي كانت تعيش من أربعة عشر قرنًا !!
وتعالوا قبل أن نغلق هذا المستنقع الذي انفتح ، نطل علي بعض ما قاله رابعهم ، فقد تفتق ذهنه ودرايته بعلم النفس ـ عن أن المرأة حينما تقود السيارة سينشغل ذهنها وفكرها وعقلها ، وكأن انشغال الذهن والعقل حرام ، ثم تفتق علمه بالطب والتشريح عن بدعة مضحكة قال فيها إن المرأة حين تجلس طويلاً ـ إلي مقعد القيادة ـ يرتد »‬ الحوض » فيضغط علي »‬ المبايض » مما يؤثر علي النسل ، وأنه يشهد علي هذه الفكرة العبقرية أن المشاهد في أمريكا و أوروبا من اقتصار الأسرة علي طفلين أو ثلاثة ، ليس مرجعه إلي تحديد النسل ، وإنما سبب ذلك »‬ خلل وظيفي عضوي » نتيجة ضغط الحوض علي المبيضين بسبب الجلوس الطويل إلي مقعد القيادة !!
تصويب الفهم وإيقاظ العقل
يوري ذلك وغيره مما يعتنقه المتطرفون والجانحون ، أن ما نحتاجه هو تصويب الفهم ، ولا يتأتي صواب الفهم إلاَّ بإيقاظ أمثال هذه العقول من سباتها !
هذا التصويب والإيقاظ قضية عامة ومجتمعية ، يجب أن يحتشد لها المجتمع بأسره ، وأن يسهم ـ كلٌّ بعلمه وتخصصه ـ بما يوقظ العقول ويصوب الأفهام التي ران عليها الجفاف والفقر والجمود .
الفهم أساس ضروري ولازم لكل تجديد أو بالأحري لتصويب الفهم الذي انحرف وأُغْلِقَ عليه ، ولا يتأتي ذلك إلاَّ بإيقاظ العقل . الحاجة لإيقاظ العقول حاجة ماسة ، لن يجدي فيها قطع المحفوظات ولا الكليشيهات الدارجة ، وإنما يحتاج ذلك إلي أجراس ومطارق تنبه وتوقظ . أن نتعلم »‬ التفكير » قبل »‬ الحفظ » . فالحفظ ترديد قد يكون كترديد الببغاوات ينقصه الفهم لأنه ينقصه إعمال العقل . أعجبني جدًّا للأستاذ العقاد كتابه »‬ التفكير فريضة إسلامية » . فيه تحدث عن كل ملكات العقل وعن وجوب وكيفية إعماله ، وقد كان أجدي بنا وبوزارة التربية والتعليم أن تقرر هذا الكتاب في مرحلة الدراسة الثانوية بدلاً من عبقرية الصديق وعبقرية عمر وعبقرية خالد ، فبصواب التفكير بإعمال العقل تنفتح كل المغاليق ، ويقبل الدارس علي التاريخ إقبال الفاهم الراغب في الفهم وفي المزيد من الفهم .
ما رأيناه من الأمثلة المؤسفة التي استشهدت بها ، ليس دليلاً بذاته علي قلة المذاكرة والحفظ ، فقد يكون الواحد منهم قد أمعن في هذا الباب وحفظ فأمعن في الحفظ ، ولكنه حفظ بغير فهم وبغير إعمال العقل ، ولو أعمل أمثال هؤلاء عقولهم لفهموا ، ولصوبوا ما حفظوه عن بعض الكتب الصفراء التي تجاوزها الزمن وتجاوزتها الحضارة في عالم يعيش صيرورةً دائمة . وهم لو اجتبوا هذه الثمرات لانفتحوا علي الحياة .
هؤلاء الغفاة يئدون الحياة ، ويصادرون التطور ، ويحكمون علي الأحياء بالموت . فالجمود والتحجر موت ، والموت لا خروج منه إلاَّ بالبعث !
هذا التصويب واجب لازم وضروري في الخطاب الديني والتعليمي والثقافي والمعرفي والإعلامي والتربوي والمجتمعي والبيئي ، وفي كل فرع من الفروع له تأثير في بناء الإنسان وفي قيمه وأخلاقه وسلوكه ، غاية التجديد هي تصويب الفهم بتصويب الفكر ، وبإيقاظ العقول وحثها علي التفكير والتأمل .
الذين يصادرون التفكير باسم الدين ، يفوتهم أن الدين ذاته يحض علي التفكير حتي في مسائل العقيدة والإيمان ، فضلاً عن التبعة والتكليف .
نبوة القرآن نبوة فهم وهداية بالنظر والتأمل والتفكير .
والتفكير فريضة إسلامية نوه بها القرآن الحكيم .
وكثير من آياته تختم بعبارات مثل : »‬ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ » ، وأن آياته مفصله »‬لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ » ، و»‬ مَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ » ، »‬ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ » . »‬فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الألْبَابِ » . »‬ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ » .
وفي الذكر الحكيم ما يلفت الأنظار والبصائر والعقول إلي تدبير الخالق البارئ المصور في هذا الكون العظيم الذي يحفل بأبلغ الدلائل علي قدرة الحق سبحانه وتعالي ووحدانيته ، ويهدي إلي الآيات الدالة عليه فيقول جل شأنه : »‬ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَيَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ » (آل عمران 190، 191) .
وكان نبي القرآن عليه الصلاة والسلام يقول عن هذه الآيات : »‬ ويل لمن قرأها ولم يتفكر » ويوصي فيقول : »‬تفكروا في خلق الله . تفكر ساعة خيرٌ من عبادة سنة» .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف