الأهرام
منير عامر
أحلام تبدو بسيطة لكنها أساسية
حين صدر قرار تكليف إيناس عبد الدايم بمسئولية وزارة الثقافة؛ طفا على سطح الذاكرة سابق تكليفها بتلك المهمة بعد ثورة الثلاثين من يونيو، فاعتذرت مقدمة عليها شقيق روحها وروحى أيضا الفاضل حقا وصدقا د. صابر عرب الذى شاء أن يغسل الوزارة من كثير من الادران التى زحفت عليها عبر بوابة البيروقراطية المدمنة لارتباكات العقل والوجدان؛ فلن انسى له إتجاهه لمجلس الوزراء كى يسحب قرار تعيين أحدهم فى منصب محورى بالوزارة بعد أن سبق الاستغناء عن خدماته حين كان يدير دار الكتب، ولن أنسى له ايضا أنه اعاد ساعة بعدة الوف من الجنيهات، لأنها جاءته كهدية اثناء توليه المنصب الوزاري، وتوالت أسماء كبار حقا وصدقا على المنصب الصعب، فهاهو جابر عصفور الذى يتحرك بمنطق العاصفة راغبا فى ان يزيح التخلف من البيت الثقافي؛ كما سبقه المثقف العاشق للفن شاكر عبد الحميد الذى حاول جهده دون ان يجد معاونين على نفس درجة نقاء أحلامه؛ ليتلوه عبد الواحد النبوى المزدحم باحلام تحرير تاريخ المحروسة بالحفاظ على ذاكرة هذا الوطن من وثائق، فضلا عن سابق تولى عماد ابو غازى لهذا المنصب المهتز بعنف الزلازل إبان فترة توغل التظاهر؛ زلازل شاءت ان تففد هذا الوطن تماسكه وكان الرمز هو حريق المجمع العلمي.

وقد يكون تذكرى لاسماء من جلسوا على هذا الكرسى قد أصابه عدم الترتيب لكثرتهم فى منصب اساسى للوجدان والعقل المصرى والعربي؛ فهو منصب يثير شعلة الحلم بإنارة طريق المستقبل؛ لكن زواحف البيروقراطية العفنة كانت قادرة على تحجيم طاقة كل من جلسوا على المقعد اللامع.

وظلت إيناس عبد الدايم فى موقعها كرئيسة للأوبرا بعد أن خرجت بفرقها إلى الشارع لتسهم فى إسقاط حكم المتأسلمين بالعزف الموسيقى وبفرق قادرة على أن تؤكد ان الفنون ترفض الجمود او عودة ساعة التاريخ إلى الخلف. ولم تستسلم إيناس لوهج الحديث عن دور فرق الاوبرا فى صياغة التمرد على جرائم اغتيال الذوق العام الذى احترفه المتأسلمون؛ لذلك اتجهت إلى تحسين جودة المعروض على مسارح دار الاوبرا سواء بالقاهرة او الإسكندرية او دمنهور؛ ولم تكتف بذلك بل ضمت قاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة القاهرة؛ فإذا كان الجمهور يتزاحم ـ على سبيل المثال ـ لسماع ومشاهدة حفلات عمر خيرت بتذكرة تصل إلى مئة جنيه؛ فالجمهور الشاب يمكنه حضور ومشاهدة عمر خيرت بخمسة جنيهات فى قاعة احتفالات جامعة القاهرة التى سبق وشهدت حفلات سيدة الغناء ام كلثوم وعبد الحليم حافظ، بل ومن حق جمهور الإسكندرية ان يستمتع بأرقى ما يقدم على مسارح الاوبرا بالقاهرة، ونفس الامر بدمنهور، ولو وجدنا مسارح فى عواصم محافظات المحروسة لكان من نصيب كل عاصمة من عواصم المحافظات حفل موسيقى من الحفلات التى يعشقها الجمهور. وللقضاء على حالة عجز المحافظات عن وجود مسارح تليق بالعروض، لذلك كان اتفاق إيناس عبد الدايم مع التليفزيون لينقل الحفلات الحية على القناة الثقافية؛ فمن حق الجمهور ان يصل إليه الفن الراقي؛ صحيح أن قنوات ماسبيرو تجد منافسة ضارية من القنوات الخاصة وصحيح ايضا أن هناك مكاسب لا يمكن تقديرها بالمال عندما نجد على شاشة قناة مجانية حفلات للمواهب الشابة التى تحيى حفلات تكشف مواهب تخلد ذكرى ام كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ. مع الإنشاد الديني؛ وتراتيل الكنائس.

وظل العمل منتظما بدار الأوبرا ومسارحها يدور بالنهج الهادئ غير الباحث عن ضجيج زائف؛ فكما دخلت إيناس مبنى الأوبرا كعازفة حاملة لدرحة الدكتوراه من باريس فى تعلم آلةمن أصعب الآلات الموسيقية هى الفلوت؛ فهى أيضا أستاذة متميزة لتلك الآله فى أكاديمية الفنون، وهى من قبل ومن بعد تعلم أن الفلوت ليس إلا ابنا شرعيا للمزمار البلدى الذى سافر إلى الغرب ليخضع للتطور العلمى والتقنى مثله فى ذلك مثل فن الأوبرا نفسه.

ومنطق ومنهج التقدم الذى لحق بالمزمار البلدى حتى صار الفلوت وشاركه فى هذا التقدم كثير من آلات النفخ الموسيقية، بنفس المنهج شاءت إيناس عبد الدايم ان تطور عملها كرئيسة لدار الاوبرا، تهتم برصيد مأ أضافه رؤساء الاوبرا السابقون، رتيبة الحفنى فى الاهتمام بالموسيقى العربية مهرجانها السنوى ، وطارق على حسن بقدراته العلمية على إعادة تنظيم العمل فى الأوبرا حيث لم يكن لفرقها أى شكل إدارى منتج، ثم سمير فرج الذى شذب من ضجيج محترفى الضجيج ليرفع من شأن الأداء؛ فيكون التقييم والجزاء على ضوء الجودة، ثم عبد المنعم كامل اول راقص باليه ليؤسس تعاونا ثقافيا خلابا مع إيطاليا ويستضيف واحدا من ارقى فنانيها هو «ريناتو جريكو».

ومضت سنوات إدارة إيناس عبد الدايم فى الاوبرا بسلاسة مثيرة للإعجاب، لتقبل اخيرا التكليف بمنصب الوزيرة وهو المنصب الذى سعى إليها بعد الثلاثين من يونيو، لكنها فضلت ان تظل فى بيتها «الاوبرا» وهو البيت الذى دخلته عازفة فلوت فى أوائل التسعينيات لترتقى معه ثم ترتقى به.

ومن حق القارئ ان يعلم أن كاتب هذه السطور شهادته مجروحة فى حق إيناس عبد الدايم فهى بمثابة شقيقة صغرى منذ ان دخلت الاوبرا عازفة وكنت مستشارا ثقافيا لبيت الفنون الراقية وهو دار الأوبرا ؛ ولم أقبل ذلك العمل لسنوات إلا لأنى عاشق قديم لفنون الاوبرا، وقد شربت عشقها عبر صداقة حميمة مع فنان الإسكندرية العظيم سيف وانلى ؛

ثم صداقة اثيرة مع مؤسس الثقافة المصرية الحديثة ثروت عكاشة الذى لم يؤسس اكاديمة الفنون فقط بل نقل ابو سنبل ليحميه من مياه السد، ثم إعجاب جليل بقدرات خيال الفنان فاروق حسنى الذى له فضل إعادة الرونق لشارع المعز، فضلا عن تأسيس سلسلة المتاحف التى تؤرخ لمشاركات المصريين فى معمار الحضارة الإنسانية.

وأثق أن شريف إسماعيل الذى يؤثر العمل فى صمت يحلم بأن تعيد إيناس ترتيب البيت الثقافى كى يضيف للوجدان نورا يتوازى مع أحلام عبد الفتاح السيسى لتقدم هذا الوطن القائد لمسيرة الحضارة على مر العصور.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف