الأهرام
احمد عبد المعطى حجازى
قضيتى هى الثقافة
هل أنا فى حاجة لذكر الأسباب والدواعى والمناسبات التى تفرض علينا أن نتحدث عن الثقافة وأن نعطيها أولوية تستحقها فى المطالب والقضايا الحيوية التى تشغلنا فى هذه الأيام العصيبة؟

إن كل ما حولنا يذكرنا بغياب الثقافة. وكل ما حولنا يذكرنا بحاجتنا الملحة إليها.

يكفى أن ننظر فيما آلت إليه لغتنا القومية حتى ألسنة النخبة التى تمثلنا فى كافة الميادين وعلى صفحات الصحف والكتب الصادرة فى الدور الكبرى. وأن نتأمل ما صرنا إليه فى حياتنا اليومية. فى الشارع القانون غائب، والخروج عليه هو القانون الذى يلتزمه الجميع. الركاب، والمشاة، والمتسولون، والباعة المتجولون. والجمال غائب. والقبح حاضر. والنفايات متراكمة. والأصوات ضوضاء ينخرط فى صنعها الشارع كله. أبواق السيارات، وأصوات الباعة، وميكروفونات الزوايا المحشورة بين المحال التجارية والعمارات السكنية.

وقد يستغرب البعض أن نستدل على غياب الثقافة بما يجرى فى الشارع، لأن الثقافة فى نظره علم وفكر وفنون وآداب نجدها عند من يشتغلون بها ونتلقاها عنهم فى الكتب والمسرحيات والمعارض والأفلام، أما الشارع فساحة مفتوحة للحياة اليومية والنشاط العملى الذى يختلف بطبيعته عن النشاط الثقافي. لكن أصحاب هذا الرأى يجهلون حقيقة الثقافة، لأنهم يحصرونها فى مجال محدود ويعزلونها عن الحياة ويميزون فى الإنسان بين وعيه وسلوكه ويحولون الثقافة الى ترف لا تطلبه إلا قلة قليلة فبوسعنا بناء على هذا الرأى أن نستغنى عن الثقافة ونلتفت لما تحتاج له الأغلبية ويهم رجل الشارع.

مثل ماذا؟

توفير الحاجات الأساسية. الطعام، والمسكن، وفرصة العمل، والأمن كيف؟ بالاستدانة، ورهن الأمتعة والبحث عن كفيل وتغيير اللهجة والتنكر فى الخف والجلباب والحجاب والنقاب؟ أم بالموت غرقا فى القوارب المطاطية على شواطئ البحر الجنوبية والشمالية؟ أم بالقتال تحت رايات الشيخ بديع والشيخ القرضاوى والسلطان أردوغان وأمير المؤمنين أبو بكر البغدادي؟

إنها كلها صور من صور الهروب واليأس والانتحار نفقد فيها هويتنا ونخسر مستقبلنا الذى لايكون مضمونا لنا جميعا إلا بنهضة جديدة نبنيها بثقافة وطنية وإنسانية جديدة تملى علينا سلوكنا فى البيت والشارع، ويتكامل فيها القول والفعل والعلم والفكر والفن والأدب كما تتكامل فى الإنسان طاقاته وحواسه وملكاته.

القوانين العلمية قبل أن يكتشفها أصحابها كانت ألعابا فى الطفولة وأحلاما فى الشباب. والعقل الذى يمارس نشاطه بالمنطق والبرهان لايمكن أن ينفصل عن العواطف والذكريات والآمال والآلام والرغبات والمخاوف. ونحن لا نستطيع أن نتصور نشاطا علميا منفصلا عن النشاط الفني، أو إنتاجا أدبيا معزولا عن الثقافة القومية التى هى شرط لوجود الأمة وما يصدر عنها من إبداعات فردية وجماعية. والذين يحصرون مطالب رجل الشارع فيما يحتاج إليه جسده ويجعلون غذاء الروح والعقل احتكارا لنخبة محدودة يظلمون رجل الشارع ويظلمون الثقافة ولايعرفون أنها بدأت من رجل الشارع، وأقصد به الأمة مجتمعة قبل أن تصبح نشاطا خاصا يمارسه المتخصصون فيه. ونحن نعرف الآن أن «الشوقيات» هى القصائد التى نظمها شوقي، وأن مسرحية «أهل الكهف» كتبها توفيق الحكيم، لكننا لانعرف شيئا عمن كتب «ألف ليلة وليلة». نعرف أنها ليست عمل رجل واحد وإنها إبداع جماعى شارك فيه كثيرون ينتمون لأجيال عديدة وبلاد مختلفة. والذى نعرفه عن «ألف ليلة» نعرفه عن السير الشعبية وعن الملاحم اليونانية التى تنسب لهوميروس وإن اكتملت بمشاركات أخرى كان الجمهور طرفا فيها. ثم إن هناك حقيقة أخرى يتجاهلها الذين يعتبرون الثقافة ترفا زائدا عن حاجة رجل الشارع، وهى أن رجل الشارع إن كان يفتقر لثقافة حية يعرف بها العصر ويعيش فيه ويتفاعل معه وينال ما يحتاج إليه بدنه وروحه وعقله فهو فريسة لثقافة أخرى تغيب وعيه وتهمشه وتحوله إلى كائن عاجز لايبالى بشئ ولا يمتثل لمبدأ أو قانون. إن الأسوأ من غياب الثقافة الرفيعة هو حضور الثقافة المنحطة. والقضية التى نتحدث عنها ليست إذن سهلة، والمشكلة مركبة نحتاج لأن نواجهها فى صورتها السلبية المتمثلة فيما هو شائع وسائد من الخرافات والأوهام والتقاليد البالية والعادات السيئة نكشفها ونحاصرها ونتخلص منها بقدر ما نستطيع، ونواجهها فى صورتها الإيجابية، فنشجع الإنتاج الثقافى الرفيع، ونضمن له حرية التعبير عن نفسه، ونفسح المجال أمامه ونفتح طريقه إلى الجمهور، ونفتح طريق الجمهور إليه. وبهذا الحوار الحى تزدهر الثقافة وينهض المجتمع ويتحرر ويترقي. وبدونه يكون العكس. لأن الثقافة الرفيعة لن تزدهر والمجتمع لن ينهض ولن يترقى ولن يتحرر فى وجود الثقافة المنحطة التى تملك الكثير لتضمن لنفسها البقاء والغلبة مستعينة بالكثير الذى تملكه وتستخدمه. تستخدم الجمهور الواسع الذى توارثها جيلا بعد جيل. وتستخدم الدين، وتستخدم النظم الحاكمة المستبدة التى تستخدم بدورها هذه الثقافة التى تكبل الناس بالقيود وتجعلهم رعية مستسلمة للحاكم تسمع له وتطيع. وعلى أساس فهمنا هذا للثقافة وللدور الفاعل الخطير الذى تؤديه فى حياة البشر أفرادا وجماعات نتناول أوضاعنا الثقافية الراهنة. ونحن على يقين من أنها منبئة عن أوضاعنا فى مختلف المجالات. وهذا ليس مجرد منطق وإنما هو واقع نعرفه بحواسنا الخمس. فإذا كان حقا ما أقول فقضية الثقافة ليست قضية فئوية أو مكتبية أو نقابية تخص المشتغلين بالنشاط الثقافي، وإنما هى قضية قومية تهم كل المصريين الذين يحتاجون أشد الحاجة لنهضة قومية جديدة لن تتحقق إلا بنهضة ثقافية جديدة يدعونا لها فى كل يوم داع جديد ومناسبة جديدة.

فى هذا العام، إذا أسعفتنى الذاكرة، تحل الذكرى الستون لإنشاء وزارة الثقافة، هل تذكرت الوزارة عيد ميلادها؟ وماذا أعدت للاحتفال به؟ هل استعدت له بإحصاءات وبيانات وأعمال وعروض تضع فيها أيدينا على أوضاعنا الثقافية الراهنة؟ وهل دعت لمؤتمر ونظمت ندوات تناقش فيها هذه الأوضاع؟ إنها مناسبة جديدة تفرض علينا أن نراجع أوضاعنا وننقذ ثقافتنا. ولهذا أشرت إليها. لأن قضيتى فى هذه المقالة وفيما يليها هى الثقافة وليست وزارة الثقافة.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف