الأهرام
د/ شوقى علام
الخلل فى المفاهيم (25) التحاكم إلى القوانين الوضعية
لا يَكُف أهلُ التطرف وأصحابُ الفكر المتشدد عن تجديد وتحديث أفكار الخوارج القديمة فى العصر الحاضر تحت اصطلاحات مبتكرة لم تعرف فى الزمن الأول من أجل استقطاب الأتباع وتبرير أفكارهم ومرتكزاتهم الحركية المعتمدة بشكل أساسى على مظاهر الكراهية والإقصاء لغيرهم والتى مثلت الجذور الرئيسية لمقولات التكفير المشهرة كسلاح مدمِّر فى وجه الأمة.
لقد كشفنا فى عدة مقالات سابقة عن مدى اختلال الفهم عند هؤلاء فى تناول بعض المفاهيم والموضوعات التى جمعها هؤلاء تحت مسمى «نواقض الإسلام» أو «نواقض الإيمان»؛ لتكون كالمتون يسهل تداولها وحفظها على الأتباع، ولتتخذ أيضًا موازين يقيسون عليها غيرهم، ويُعَدُّ «التحاكم إلى القوانين الوضعية» من أقوى بنود المسمى السابق الذى ينطلقون منه فى صبغ أفكارهم المنحرفة وأعمالهم الخبيثة بالمشروعية الدينية . والتحاكم لغة كالتحكيم ومعناه: تفويض الحكم إلى شخص أو إلى المختص، وفى الاصطلاح: تفويض المتخاصمين الحكم فيما يتنازعان فيه إلى واحد يرتضيانه لفصل خصومتهما ودعواهما، أما القانون فكلمة غير عربية الأصل، ويُراد بها فى اصطلاح السياسيين والقضاة ورجال الدولة: مجموعة القواعد التى تضبط نظام المجتمع بحيث يتعين على كل فرد الخضوع لها طواعية أو قهرًا، ونعت القانون بــ «الوضعي»، يعنى أنه من وضع البشر وصناعتهم.
ولعل ذلك يظهر لنا المدخل الذى ينطلق منه أهل التشدد والتطرف فى تأييد مقولاتهم بـ «ضلال الأمة» وكفر نخبته حكامًا وعلماء ومفكرين، وإطلاق أوصاف: «الجاهلية»، «وغربة الدين وانعزاله عن المجتمعات المسلمة»، بل غلوا فى ذلك إفراطًا كبيرًا فزعموا أن «القوانين الوضعية ما أسست إلا مضاهاة لحكم الله تعالى وترسيخا للأحكام المناقضة له»، ثم بنوا على ذلك أحكامًا خطيرة تهدد استقرار المجتمع.
ومصاحبة لهذه المزاعم المتضمنة أحكامًا عامة لا يدخر هؤلاء وسعًا فى لمز علماء الأمة ومؤسساتها، حيث اصطنع خيالهم الفاسد تهمةً لتبرير غلوهم وانحرافهم تحت مسمى «إضفاء صبغة الشرعيَّة لهذه المؤسسات وقوانينها»، بحجة أنهم يشيرون فى جهودهم العلمية والدعوية المختلفة فى تبصير الناس بأمور دينهم ودنياهم إلى المواد القانونية فضلا عن تقرير وجوب لجوء أفراد الأمة إليها والتزام ما يصدر عنها، والتى يدعى هؤلاء «أن واقعها جزء من إطار خارج على شرع الله، وأن ذلك يعطيها قدرًا من المصداقية لدى عوام الأمة»!
والحق أن الأمة استفادت فى تجربتها المعاصرة بما توجهت إليه النظم الحديثة فى صياغة نظامها التشريعى والمدني، ولم تطبق قوانين تلك النظم بذاتها ولم تقلدها تقليدًا محضًا، وإن حصل نوع من اقتباس للمسائل والصياغات منها وفق بيان مأخذ كل مادة منها من الشرع الشريف.
وهذا موقف حكيم علميًّا وعمليًّا، لمراعاته الواقع وانطلاقة متكاملة للأمة فى المشاركة فى ركب الحضارة، مع موازنة منضبطة بين «الثابت والمتغير»، وهو مصطلح يقصد به إجمالا التفريق بين مواضع الإجماع والنصوص القاطعة التى لا تحل المنازعة فيها، وبين موارد الاجتهاد التى لا يضيق فيها على المخالف لظنية مداركها ثبوتا أو دلالة، استنادًا لقوله صلى الله عليه وسلم: «ما أحل الله فى كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئا، ثم تلا هذه الآية:» وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا «[مريم: 64]» .
ويظهر من ذلك الفارق الدقيق بين العلماء الفاهمين لدينهم المتبصرين بواقع أمتهم على الحقيقة وبين أهل التطرف الذين لا يتعاملون إلا مع الأوهام ومن خلال المناهج المقلوبة والمفاهيم المختلة والثقافة المغلوطة والشعارات البراقة التى تحمل ظلالًا مشككة ومربكة، ولا مبرر لها، وبعد هذا البيان هل يكون تنظيم الحياة وتطور نظم الأمة لضمان استمرارها فى ركب الحضارة تحاكمًا إلى الطاغوت وإعراضًا عن هدى الكتاب وطريق السنة وخطة الإسلام؟!! ولأهمية هذه القضية سنفرد سلسلة مقالات لبيان جملة من الموضوعات المتعلقة بها.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف