الأهرام
عبد الجليل الشرنوبى
البَكَوَاتْ لا يموتون ضحكا
عالما مسرحيا خَلَّقَهُ كاتب بحجم (لينين الرملي)، ورسم ملامحه مخرجا خبز المسرح روحه هو الدكتور (عصام السيد)، وجسد شخوصه الرئيسية القدير (نبيل الحلفاوي) والحريف (محمود الجندي)، حين تغادر هكذا عالم لتعود إلى دنيا الواقع، عليك أن تمتلك الشجاعة لتواجه موات الواقع مطلقاً ضحكات ساخرة، وربما ماجنة، أو حتى مُرة، وعليك كمثقف عصرى أن تكون أكثر شجاعة حين تواجه ذاتك، مستجيباً لنصيحة عنوانها (اضحك لمّا تموت).

المفكر الفلسطينى (إدوارد سعيد) فى خاتمة كتابه المترجم والمعنون بـ (الآلهة التى تفشل دائماً)، يقول (على المُثقف أن ينتقل ويقابل الناس، ويجب أن يمتلك فسحة ليقف ويرد على السلطة، لأن التبعية الكاملة للسلطة فى عالم اليوم واحد من الأخطار الأعظم على الحياة الفكرية الأخلاقية)، ثم يضيف (إنه لصعب أن يواجه المرء ذلك الخطر وحده، وحتى صعب أكثر إيجاد طريق لتبقى مستقيماً مع معتقداتك وفى الوقت نفسه أن تبقى حراً كفاية لتنمو أو تغير عقلك، أو تكتشف أشياء جديدة، أو تعيد اكتشاف ماصرفت عنه النظر فى الماضي).

كان عنوان كتاب (إدوارد سعيد) خلفية صوتية تتصاعد فى سماء أحداث المسرحية، وكانت كلماته هى أول ما سعيت إليه بعد مشاهدة العرض المسرحى المثير للشجون والأسئلة والمهيج للأوجاع والتفكر، لقد قرر (لينين الرملي) أن يكمل رحلة من التأمل بدأها عبر صديقين فى تسعينيات القرن الماضي، عندما قدم رحلة إلى الماضى فى (أهلا يا بكوات)، ثم حملهما إلى المستقبل فى (وداعا يا بكوات)، واليوم يقرر أن يرميهما فى مواجهة واقعنا وواقعهم داخل شقة الدكتور المفكر الوحيد والمكتئب التى تطل على ميدان التحرير أيام الثورة 2011 وربما 2013، كلاهما مثقل بخيبات الماضى وهزائمه وصراعاته، وكلاهما يفكر فى الموت انتظارا أو انتحارا، وكلاهما كان يحب نفس الفتاة التى تسمى (حرية ـ حورية ـ حربية ـ حرباية)، وكلاهما صدمه واقع الحبيبة المزرى والممتهن، وكلاهما متقوقع على ذاته داخل الشقة، ومنفصل عن جيل الأبناء الذى قرر الخروج للشوارع أملاً فى تغيير لا يدرك له ملامح.

فى تلق أولى لرسائل (لينين الرملي) يمكن القول إنه بمعاونة (عصام السيد)، وبمشاركة (الحلفاوى والجندي)، قرروا مع سبق الإصرار والترصد أن يعيدوا تقييم واقع تشاركوا كجيل فى معايشته وربما صناعته، وأن ينظروا فى مرآة كاشفة لعوار واقع متجاوزين بالرمز حساسية النقد فى أجواء يصعب نقدها دونما تهم تخوين أو تفريط.

ويعود بنا الحديث إلى المفكر الفلسطينى (إدوارد سعيد) الذى يقول (الجانب الأقسى لكونك مثقفا هو أن تقدم ما تمارسه عبر عملك وتدخلاتك دون التحجر فى عرف أو نوع من إنسان آلى يعمل بأمر نظام ما أو طريقة ما)، هكذا يمكن قراءة حالة المواجهة فى (اضحك لما تموت)، حين يقرر المثقف العجوز المهزوم أن يحرق كتبه بعد تصاعد أحداث الثورات أو (الربيع العربي) وضياع ابنه فى أتون تفاصيلها وانعدام كل وسائل التواصل معه، وقف المثقف (البِكْ) إلى جوار صديقه (البِكْ)، ينتظرون موتاً قادماً ويضحكون على هزائم صنعوها بقبولهم التدجين داخل حظائر إعداد الوطن والمواطن.

أتذكر لقاءً وحيداً جمعنى بالكاتب الكبير (لينين الرملي) فى حضرة الفنان التشكيلى (وجيه وهبة) كان ذلك بعد ثورة يناير 2011 وكان اللقاء بالنسبة لى حلما وهو أحد من فتح وعيى على مسرح أصيل ومثير للأسئلة، وهو أيضا أحد من كنتُ أعدهم قبل الفرار من أسر تنظيم الإخوان (من أعداء الدعوة الإسلامية) حين قدم فيلمه (الإرهابي)، وأخبرته بذلك مجرد أن التقينا، فأجاب باسماً (المسرح الذى كنت تشاهده والفن الذى كنت تتابعه، والأدب الذى حرصت على أن تتجول بين ربوعه كانوا جميعاً أدواتك لتنجو ولأبرأ من تهمة عدائى للإسلام) كان هذا اللقاء فى ظل حكم مندوب تنظيم الإخوان لوطننا وكان (لينين) متفائلا.

تصل أحداث المسرحية إلى نهايتها، الأجيال الجديدة شبت عن طوق الآباء (البكوات)، بينما قرر الأخيرون أن يبقوا معاً يمارسون ذات شجاراتهم القديمة ونقاشاتهم العتيقة ومعايرتهم لبعضهم بالعجز والكهولة، وتنغلق ستارة المسرح القومي، وتُضاء جنبات الصالة ليتألق ما خطه الفنان المصرى فى أعلى الستارة (إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا)، وهنا يدوى صوت (إدوارد سعيد) فى آخر سطور كتابه موصياً كل مثقف ساع لبناء وعى حقيقى (استمر بتذكير نفسك أنك كمثقف أنت القادر على أن تختار بين الإيجابى وهو أن تقدم الحقيقة على أحسن وجه تستطيع، والسلبى وهو أن تسمح لراعٍ أو سلطة أن توجهك)، حين نقف على وصية المفكر الفسلطينى الراحل نكتشف أن (بكوات) لينين الرملى يموتون وجعا لا ضحكا.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف