بوابة الشروق
ابراهيم عوض
عن المشاركة فى «الانتخابات» والدعوة إلى مقاطعتها
يتردد المرء كثيرا فى تناول «الانتخابات الرئاسية» المزمع إجراؤها فى النصف الثانى من شهر مارس المقبل بالتعليق. ليست فطنةٌ كثيرةٌ مطلوبةً لمعرفة سبيلالسبب. أى مسألة محددة نتيجتها مسبقا لا تستدعى التعليق ولا تستحقه. ولقد اجتهد القائمون على العملية السياسية فى مصر، وسخّروا فى ذلك الإجراءات وأجهزة الدولة وهيئاتها ووسائط الاتصال المكتوبة والسمعية البصرية، حتى تكون النتيجة محسومة لا شك فيها. من حيث التعريف، الانتخابات التنافسية لا يمكن التنبؤ بنتيجتها. لذلك، فإن ما تفعله استطلاعات الرأى هو الكشف عن اتجاهات نوايا التصويت وليس التنبؤ بالنتائج. مخالفة نتيجتى الانتخابات الرئاسية الأمريكية والفرنسية لنوايا التصويت التى كشفت عنها استطلاعات الرأى فى العامين الماضيين كانت أفضل بيان على عدم إمكان التنبؤ بنتائج الانتخابات التنافسية فى النظم الديمقراطية. من نصّبوا أنفسهم قائمين على العملية السياسية فى مصر هم المسئولون عن التردد فى الكتابة عن «انتخابات» مارس المقبل. من يدقق سيجد أن كل ما ينشره الصحفيون والكتاب المتخصصون فى الموضوع ليس عن الانتخابات نفسها والأفكار المعروضة فيها ومناقشتها، وإنما هو عن العملية الانتخابية بشروطها وما اعتراها وأدّى إلى تمهيد طريق لا تعترضه لا عوائق ولا منعرجات ولا مطبّات نحو نتيجتها المحتومة.

***

غير أن إحالة عدد من قادة الأحزاب والشخصيات العامة، المنتظمين فى الحركة المدنية الديمقراطية، إلى النيابة العامة للتحقيق معهم نتيجة لبلاغ قُدِّمَ فيهم يتهمهم، ضمن ما يتهمهم به، بالعمل على «إسقاط الدولة إلى الأبد» تضطر المراقب المعنى بمصالح بلده ومجتمعه وتقدمهما إلى التعليق. خلفية البلاغ المقدّم فى حق قادة الأحزاب والشخصيات العامة كانت المؤتمر الصحفى الذى عقدوه يوم 30 يناير الماضى ودعوا فيه المواطنين إلى مقاطعة «الانتخابات» نتيجة لما اعتبروه «مصادرة كاملة لحق الشعب المصرى فى اختيار رئيسه». يوحى البلاغ أن القائمين على النظام السياسى والمسيّرين له يعتبرون المشاركة فى الانتخابات واجبا ملزما على المواطنين، فماذا عن الإلزام بالمشاركة فى الانتخابات؟ من ضمن 203 دول وأقاليم وجد المعهد الدولى للديمقراطية والمساعدة الانتخابية أن 27 دولة وإقليما فقط، بنسبة 15 فى المائة، هى التى تلزم المواطنين فيها بالمشاركة فى الانتخابات، بينما تترك 172 دولة وإقليما، بنسبة 85 فى المائة، لمواطنيها حرية أن يختاروا بين المشاركة وعدم المشاركة. أهم حجج حرية المشاركة من عدمها هى أن التصويت حق، وأن ممارسة هذا الحق أو عدم ممارسته هو حق أيضا. أنصار حرية المشاركة يرون أيضا أنه فى إلزام المواطنين بالتصويت على مرشحين قد لا يروقهم أى منهم هو اعتداء على حريتهم. وأخيرا فإن حجةً ذات شأن هى أنهم يعتبرون أن إلزام المواطنين بالمشاركة هو اعتداء على حرية التعبير المكفولة لهم، حيث إن حرية التعبير تشمل عدم التعبير عن الرأى. حجج حرية المشاركة هى التى سادت والبيان على ذلك فى الـ85 فى المائة من الدول والأقاليم التى تأخذ بها. للإلزام بالمشاركة حججه أيضا وهى أن التصويت واجبٌ على المواطنين مثله مثل أداء الضرائب، وأنه يحث المواطنين على التعرف على سير الشئون العامة وعلى برامج المرشحين، وهو إذ يؤدى إلى نسب مشاركة عالية فى الانتخابات يدعم شرعية من يَنتخِبون ويعزز من فاعلية السياسات التى ينتهجونها. بعض من الدول التى تتبع منهج الإلزام تفرض تطبيقه، وبعضها يكتفى بالنص عليه قانونا معتبرة أن فى هذا النص ما يكفى لتشجيع المواطنين على المشاركة. عدد من الدول المتقلبة بين الديمقراطية والسلطوية فى أمريكا الجنوبية تأخذ بالإلزام وبعض الدول الأكثر رسوخا فى الانتخابات التنافسية مثل استراليا وبلجيكا تتبعه أيضا، وإن كانت الأخيرة تكتفى بإلزام الناخبين بالذهاب إلى مكاتب الاقتراع ولكن ليس بالإدلاء بأصواتهم تحديدا، وأخيرا فإن بعضا من الدول كانت تأخذ بالإلزام ولكنها أسقطته وهو ما فعلته هولندا فى سنة 1967 بعد أن طبقته لمدة خمسين عاما وإيطاليا التى عملت به فيما بين سنتى 1945 و1993.

ليس هذا المجال لتقويم نجاح الإلزام فى رفع نسب المشاركة فى الانتخابات، وهو الذى لا تتحقق بدونه «المزايا» الأخرى للإلزام. يكفى فقط أن نشير إلى أنه بالرغم من الغرامة الباهظة التى تفرضها البرازيل على عدم المشاركة، فإن 30 مليون ناخب مسجل، بنسبة 21 فى المائة من مجموع الناخبين، لم يشاركوا فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة فى سنة 2014. سنفترض هنا أن حجج الإلزام سليمة، فهل الظروف التى تفترضها هذه الحجج موجودة فى الوقت الحالى فى مصر؟ الحجج المساندة للإلزام مترابطة لا يمكن أن تتحقق حجة منها بدون الأخرى. هل يوجد حث للمواطنين على التعرف على سير الشئون العامة وعلى برامج الناخبين؟ كيف يمكن أن يوجد أصلا برنامج لمرشح وصل عدوا، وربما وهو يتصبب عرقا، إلى محطة الهيئة الوطنية للانتخابات ليقدم أوراق ترشحه قبل دقائق من إغلاق باب القطار وانطلاقه براكب وحيد؟ هل يمكن لمثل هذا المرشح أن يكون قد وضع برنامجا يستحق الاطلاع والدراسة؟ فإن كان برنامج واحد هو المتاح، فما الذى يحفز المواطنين على المشاركة؟ المشاركة للاختيار، فإن لم يوجد اختيار، فما الداعى للمشاركة؟ منطق الإلزام يفترض وجود التنافس الفعلى فى الانتخابات، فإن انعدم التنافس انهارت حججه المذكورة أعلاه، ومنها أنه يرفع من نسب المشاركة فى الانتخابات.

***

الحقيقة البادية هى أن الحملة على من دعوا إلى مقاطعة الانتخابات والبلاغ ضدهم والتحقيق معهم لها جميعا سبب واحد هو خشية أن تؤدى دعوتهم فعلا إلى مقاطعة الانتخابات وهو نقيض هدف القائمين على النظام السياسى والمسيّرين له، ألا وهو رفع مستوى المشاركة وبذلك تعزيز شرعية الحكم. لا يدرك القائمون والمسيّرون أنه بدون اختيار، لا مشاركة، ومن غير مشاركة، تنكسر الشرعية. تقويض شرعية الحكم ليس من عمل قادة الأحزاب والشخصيات العامة وحركتهم المدنية الديمقراطية وإنما هو من صنع الحكم نفسه الذى هيأ الفرصة تماما لهم لكى يطلقوا دعوتهم إلى المقاطعة. بل إنه يمكن الذهاب إلى أبعد من ذلك. عن وعى أو عن غير وعى، لم يطلق قادة الأحزاب والشخصيات العامة وحركتهم الديمقراطية دعوتهم إلى مقاطعة «الانتخابات» إلا بعد أن أدركوا أن الاتجاه العام فى المجتمع هو العزوف عن الاهتمام «بالانتخابات» وعن المشاركة فيها. على ذلك، لا يلومنّ القائمون على النظام السياسى والمسيّرون له إلا أنفسهم. هم يضرّون بأنفسهم ويخدمون كل معارضيهم.

الشك قليل فى أن المشاركة فى التصويت ستكون منخفضة. ألا يقارن أنصار الإلزام بالتصويت المشاركةَ فى الانتخابات بأداء الضرائب؟ أغلب الظن أن دافعى الضرائب المنتظمين، من المنبع، أى موظفى الدولة وشركات قطاع الأعمال العام، سيساقون إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم. ولكن ماذا بعدهم؟ بالمناسبة، التصويت فى مصر ملزم! ولكن هل بإمكان الدولة فرض هذا الإلزام؟ حجة شديدة الأهمية للأغلبية من أنصار حرية المشاركة، لم تذكر أعلاه، هى أن فرض الإلزام بالمشاركة يقتضى جهازا إداريا هائلا وهو يتطلب نفقات مالية ضخمة. هل الجهاز الإدارى موجود وهل النفقات المالية متاحة فى الوقت الذى تجاهد فيه الحكومة لتخفيض الإنفاق العام حتى تحقق هدف تخفيض العجز فى الميزانية المتفق عليه مع صندوق النقد الدولي؟ ستلوِّح الدولة بالغرامات ولكنها لن تفلح مع ذلك فى فرض المشاركة. نسب المشاركة فى مصر كانت دائما منخفضة. لم تستطع الدولة فى الماضى ولن تتمكن فى المستقبل القريب من فرض المشاركة.

***

فلتُكَف الأيدى عن قادة الأحزاب والشخصيات العامة التى شاركت فى المؤتمر الصحفى يوم 30 يناير. ليسوا هم المسئولين عن انخفاض المشاركة المتوقع، وعن تقويض الشرعية المترتب عليه. المسئولون هم من أفرغوا «الانتخابات» من أى معنى لها.

الرجاء هو أن تمرّ الأسابيع القادمة بسلام بدون تحرش بالمعارضين. أما بعد «الانتخابات»، فلتتجه الجهود كلها إلى إعادة بناء الشرعية. إعادة بنائها لن تكون إلا بتوسيع نطاق النظام السياسى وباستيعابه للتعدد التنظيمى والفكرى والمصلحى الموجود فى المجتمع، وبالتوفيق بين مكوناته. النظام الواسع متعدد المكونات ومتنوعها هو نظام مرن يجعل دولته تستعصى على «الهدم». النظام الضيق الجامد، وحيد التنظيم والفكر، هو الذى يجعل دولته قابلةً «للهدم».

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف