المصريون
جمال سلطان
لماذا تتجه مؤسسات الدولة نحو الهاوية ؟!
فجعنا هذا الأسبوع بحادثة سقوط مصعد المستشفى الجامعي في مدينة بنها ، والذي أدى لمقتل سبعة مواطنين ، ذهبوا للعلاج فعادوا لأهاليهم موتى ، وكشفت التحقيقات عن حالة من التسيب المذهل ، لدرجة أن أحدهم قال أن المصعد غير مرخص منذ ثلاثين عاما ، وعلى ضوء ما تبين من الإهمال الجسيم قرر وزير التعليم العالي إقالة كل من عميد كلية الطب ، ورئيس مجلس إدارة المستشفيات بالجامعة، ومدير عام المستشفيات بالجامعة، والمدير الإداري بمستشفيات الجامعة، ومدير الإدارة الهندسية لمستشفيات الجامعة، والمهندسة المشرفة على أعمال الصيانة والمصاعد ، أي أن طاقم قيادات المستشفى بكامله تقريبا تمت إقالته ، هل اكتشف فجأة أنه متسيب أو أنه غير كفؤ ، وبعضهم تم اختياره مؤخرا وترقيته بناء على تقارير أمنية أثنت على وطنيته و"استقامته" .
أيضا خلال عام واحد فقط ، تمت إقالة وزير الزراعة والقبض عليه بتهمة الفساد ، رغم أنه لم يمض على توليه المسئولية سوى أشهر قليلة ، وبطبيعة الحال نعرف أن الوزير يتم اختياره بعد تقارير أكثر من جهة سيادية تجري له مسحا شاملا لسيرته وانتماءاته ، لكن من الواضح أن البحث في كفاءته أو نزاهته تأتي في مرحلة متأخرة ، هذا إذا كانت تأتي أصلا ، وحدث أن تم عزل نائبة محافظ العاصمة الثانية الاسكندرية ، والقبض عليها بتهمة الفساد والرشوة ، رغم أنها تولت منصبها منذ وقت قريب ، وتم تصعيدها بعد مرورها من الفلترة الأمنية والتقارير التي قدمتها الأجهزة الرفيعة في حقها ، وفي "ولائها" ، وتم إقالة محافظ المنوفية والقاء القبض عليه بتهمة الفساد رغم أنه تولى المنصب من أشهر قليلة أيضا وبعد تقارير سيادية وأمنية أثنت على وطنيته وإخلاصه ....
الحديث يطول عن مثل هذه النوعية من القيادات ومن الأحداث ، ولكن القصد هنا الإشارة إلى أن الأجواء السياسية التي تتسم بالاستبداد وواحدية القرار وضعف سلطة المؤسسات واستقلالها ونشر الخوف والتلويح بالقمع للمخالف تمثل البيئة النموذجية للفساد وانتشاره وهمينته على مفاصل البلد ، وهو فساد له طبيعة مدمرة من جانبين ، الجانب الأول هو حرمان الوطن من الكفاءات الحقيقية الجادة والفاعلة والمخلصة والتي تفكر في الوطن والناس قبل أن تفكر في نفسها وشهوتها للمال والجاه والنفوذ والتي يتم قهرها من قبل ضعفاء النفوس والفاسدين الذين يرتقون أعلى المناصب ، والجانب الثاني هو تولي هؤلاء الفاسدين بسرعة البرق للمناصب الرفيعة في الدولة وتصعيدهم للتحكم في مفاصل الجهاز الإداري لأن الشرط الوحيد المطلوب منهم هو شرط الولاء للحاكم الفرد والتودد للأجهزة الأمنية وكلما أبلى بلاء حسنا في النفاق السياسي وتعمق فيه كلما ترقى وكلما كان أكثر حظوة عند القيادة السياسية ومساعديها ، وبطبيعة الحال لا يمكننا تعميم هذا الأمر على الجميع ، فهناك بالتأكيد حالات ـ نادرة ـ يكون فيها الشخص الكفؤ في المنصب الذي يستحقه والذي يفيد البلد من خلاله ، ولكنا نتحدث هنا عن قاعدة عامة وشائعة ومتفشية ، كلما كنت أكثر ولاءا للسلطة ومتفانيا في النفاق لها على حساب أي منطق أو حق أو مصلحة وطنية ، كلما كنت أقرب لتبوء المنصب الرفيع مهما كان تواضع إمكانياتك وخبراتك ومهما كانت سيرتك ليست فوق مستوى الشبهات .
كثيرون منا يسمعون يوميا قصصا تشيب لها الولدان ، عن تفشي الفساد في المؤسسات والأجهزة المختلفة ، وتوسيد الأمر إلى غير أهله ، وتولي الشخصيات التافهة وعديمة الكفاءة لأرفع المناصب ، ومن ثم يقومون بتهميش أو حتى قمع وتهديد الكفاءات الرفيعة في مجالهم والذين يخافون أن يكشفوا ضحالتهم وضعف إمكانياتهم أو حتى فسادهم ، حتى تقع حادثة بمحض المصادفة ، من حظه العاثر ، يجد نفسه فيها في العراء ويتكشف فساده أو الكارثة التي سببها في القطاع الذي يرأسه فيتحدث الناس عن فساده ولكنهم لا يتحدثون عن مسطرة الفساد التي اختارته والتقارير التي أثنت على "وطنيته" ومعايير تلك الوطنية .
في أي مؤسسة رسمية أو جهاز رسمي ستسمع تلك القصص التي لا تملك أمامها عادة إلا أن تخفف من إحساس القهر عند أصحابها وتطيب خاطرهم وتخبرهم أن "الأمل في الله موجود" وربنا يصلح حال البلد ! ، غير أنك تمتلئ رعبا مما ينتظر الناس من نتائج تلك المنظومة الرهيبة التي يتداخل فيها الاستبداد والفساد فلا تدري أيهما أنتج الآخر وأيهما تولد عن الآخر ، كالدجاجة والبيضة في الحكاية القديمة ، ولأن الفساد يتولد عنه كوارث تقتل البشر أو تدفنهم تحت الأنقاض أو على الأسفلت أو في مساقط المصاعد أو في فوضى المستشفيات ، كما أنها تقتلهم بالبطيء فقرا وعجزا عن توفير قوت يومهم وأولادهم أو دواء مرضهم لأسباب لا صلة لهم بها ، وإنما لأن الفساد جعل من "جيب الدولة" مثقوبا ، كلما دخلت إليه المليارات هربت في مسارات العبث واهدار المال العام فلا يبقى منها إلا القليل الذي يمنون علينا به في تعبيد طريق أو إنشاء كوبري .
لذلك يصعب كثيرا أن تتوقع خيرا أو نهوضا حقيقيا لبلد تتقلص فيه مساحات الحرية ، ويختفي هامش الديمقراطية ، ويوضع الإعلام تحت السيطرة والتوجيه المركزي ، وتغيب سلطة القانون ، ويفرض الاستبداد قواعده ومنطقه واختياراته ، وتضمحل فيه فكرة المؤسسية ، واستقلال السلطات ، وتغيب فيه الأجهزة الرقابية بل يتم التنكيل بقيادة أي جهاز رقابي يتصور أنه يمارس دوره الوطني بجدية ونزاهة واستقلال ، وتكون على يقين من أن البلد يتجه إلى الهاوية الحتمية ، ما لم تتدخل عناية إلهية ، وتكون تلك الهاوية أقرب عندما يكون البلد ، مثل حالنا في مصر ، محدود الموارد ، ويعاني وطأة الديون وتراكم الاهتراء في خدماته وبنيته الأساسية في كل مجال .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف