الأخبار
رجائى عطية
الترجمة بين التنوير والإبداع «1-2»

الحديث عن الترجمة، حديث حاضر علي الدوام، فهي نافذة تفتح علي الفكر العالمي، وتضيف إلي العربية إضافات تصب في الفكر والعلوم وفي الإبداع.. لا تستطيع أمة أن تنغلق علي نفسها وتقطع بينها وبين ما ينتجه العالم وتبدعه قرائح مفكريه وشعرائه وأدبائه وفنانيه، وعقول علمائه ومبتكرات اختراعاته.
هذه الترجمة لعبت وتلعب دورًا بالغ الأهمية في الإطلال علي العالم وثقافاته ومعارفه وحضاراته، مثلما تتيح الترجمة العكسية من العربية إلي اللغات الأخري فرصًا واسعة لتعرف العالم علينا وعلي إنتاجنا العلمي والفكري والأدبي والثقافي والإبداعي.. وتفتح لمفكرينا وأدبائنا مجالات واسعة للانتشار والتأثير، وتقيم هذه وتلك جسورًا حية وفهمًا متبادلاً بيننا وبين شعوب العالم.
مكانة الترجمة إلي العربية
ومكانة الترجمة إلي العربية، وأثرها علي الأمة العربية بعامة مكانة قديمة، لعبت من خلاله دوراً حضاريا بالغ الأهمية في تاريخنا القديم والحديث، لم يقتصر فقط علي المساحة النشطة التي شغلتها مع بداية النهضة العلمية التي عرفتها مصر في عهد محمد علي، وإنما كانت ومن قبل ذلك عاملا أساسيا في الانفتاح الواعي علي الثقافات المحيطة في العصر العباسي الذي تجاوز بكثير المحاولات الأولي للترجمة التي جرت في العصر الأموي.
بفضل هذه الحركة التي ما انقطعت إلاّ لتعود إلي التواصل، انفتحت الحضارة العربية علي التراث الإغريقي، وأدي معبر الأندلس الإسلامية إلي احتكاك ثقافي تبادلي بين الثقافتين الإسلامية والمسيحية وإلي قيام ثم ازدهار حركة الترجمة العكسية بين العربية واللاتينية، مع احتكاك علي الناحية الأخري بالثقافة الشرقية الهندية والصينية عبر الدولة الغزنوية، واقترنت حركة الترجمة النشطة بالهجرة التبادلية بين الفلاسفة والعلماء والأدباء، وإلي تلاقح امتد في كل مجالات العلوم والطب والفلسفة والرياضيات والفلك والفكر والأدب، وإلي ذلك كله ترجع المكانة المرموقة التي بلغتها الحضارة العربية في العصر الوسيط ، وهو الذي دعا مصر في نهضتها الحديثة بعد بعوثهـا إلي فرنسا إلي إنشـاء مدرسـة الألسن (1835) التي كانت نواة بالغة الأهمية في تأهيل المترجمين وتمهيد الأرض لإحياء حركة الترجمة والتي ساهم فيها مثقفو الشام بدور ملحوظ إلي جوار المصريين.
الاقتناع بأهمية وأثر الترجمة
الاقتناع بدور وأثر الترجمة في التنوير بل الإبداع، كان قاسمًا مشتركًا لدي النقاد والمثقفين والمبدعين، وقد لاحظت في حديث سابق عن الإذاعة كيف كان الإذاعي الموسوعي سعد زغلول نصار واحدًا من الذين ضربوا بمعاولهم بدأب وإخلاص في حقل الترجمة واستنبتوا تربتها قبل إنشاء المركز القومي للترجمة.. كان الإقبال علي الترجمة محاولات فردية بإمكانيات فردية وبرؤية فردية يستقل بها المترجم اختيارًا وأداءً، ويستطيع المتابع لحياتنا الثقافية أن يري المحاولات الفردية التي بذلها الرعيل الأول وترجموا بها إلي العربية كثيرًا من نفائس الفكر والأدب العالمي.. بهذه الترجمات أطللنا علي روائع الأدب العالمي في الرواية والشعر والمسرح والقصة القصيرة، وتعهدت بعض السلسلات الدورية بنشر هذه الترجمات بأثمان زهيدة.
علي أن الجميل اللافـت، أن الإقبال علي الترجمة لم يكن فقط اهتمام أساتذة اللغات والنقاد، بل اقتنع بأهميتها وأقبل علي الإسهام فيها مبدعون، ربما كان الأقرب أن يصرفهم الإبداع أو تصانيف التأليف عن الترجمة..
الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي وصاحب الإنتاج الغزير في المباحث الإسلامية، وفي النقد والأدب، وفي القصة والرواية، وفي الأدب التمثيلي، وفي التراجم والسير، وفي التربية والاجتماع والثقافة نراه يترجم من الأدب اليوناني أوديب ملكا، وأنتيجونا وألكترا وروائع أخري لسوفوكليس..
والأستاذ الأديب إبراهيم عبد القادر المازني صاحب معركة وكتاب الديوان مع الأستاذ عباس العقاد، وكاتب حصاد الهشيم وقبض الريح وخيوط العنكبوت وإبراهيم الكاتب وصندوق الدنيا نراه يهتم اهتماما بالغا بالترجمة، بل ويكتب في طرقها وأساليبها، ويخوض بنفسـه مضمارهـا فيترجـم »ساتين»‬ أو »‬ابن الطبيعة» لأرتز يباشيف، ومختارات من القصص الإنجليزي لأوسكار وايلد وآخرين، و»‬جريمة اللورد سافيل» لأوسكار وايلد، و»‬آباء وأبناء» لإيفان تورجنيف، و»‬مدرسة الوشايات» لشريدان، و»‬آلـن كوترمين» باسم : »‬الشاردة» لسريدر هجرد.
الذي قد لا يعرفه كثيرون، أن كاتبنا الفذ يحيي حقي، صاحب الدراسات النقدية، وصاحب إبداعـات »‬قنديل أم هاشـم»، و»‬البوسطجـي»، و»‬أم العواجـز»، و»‬صح النوم»، و»‬امـرأة مسكينة»، و»‬دمـاء وطين»، و»‬الفراش الشاغـر» كان مؤمنًا حتي النخاع بأهمية الترجمة ودورها في تحريك الحياة الثقافية، وترجم هذا »‬الاعتقاد» إلي ترجمات متميزة نهض عليها مقتطعا لها جانبًا كبيرًا من وقت اهتماماته الإبداعية والنقدية.. ترجم »‬الأب الضليل» لأديث سوندرز عن قصة حياة الأب الضليل : »‬الكسندر ديماس» الكبير مؤلف الفرسان الثلاثة، والكونت ديمونت كريستو، وهو الأب غير الشرعـي لألكسندر ديمـاس الابن مؤلـف »‬غـادة الكاميليا»، وترجـم »‬البلطـة» لميخائيـل سادوفيانو، و»‬لاعب الشطرنـج» لستيفـان زفايـج، وكتـاب »‬القاهـرة» (في عيدها الألفي) لدزموند ستيوارت، ومسرحية »‬كنوك» أو »‬انتصار الطب» التي قام عليها مجد مؤلفها جيل رومان، ومسرحية »‬الطائر الأزرق» لموريس ميترلينك التي نشرتها معها دار المعارف بذات المجلد ضمن مسرحيات يحيي حقي المترجمة، في احتفاء واضح بالترجمة والمترجم وما اختاره ليترجمه باقتدار لعملين متميزين من المسرح العالمي..
وربما غاب عن كثيرين أن الأستاذ عباس العقاد، علي مؤلفاته التي بلغت نحو مائة كتاب، وابداعاته في الشعر الذي بلغ ثلاثة عشر ديوانًا غير الأشعار المتفرقة التي لم تجمع، كان صاحب عناية بالترجمة، وهذه العناية بدت في كثير من مؤلفاته التي استشهد فيها بآراء للمفكرين والفلاسفة والأدباء والشعراء العالميين، وتضمنت هذه الاستشهادات ترجمة لها من الإنجليزية التي أجادها إجادةً أتاحت له الاطلاع علي هذه النوافذ العالمية. علي أن اهتمامه بالترجمة لم يقتصر علي هذه المتفرقات التي تخللت كتبه ومقالاته، وإنما عني كذلك بترجمات صِرف، لأعمالٍ شدت عنايته، فحرص علي ترجمتها لقراء العربية. فترجم إلي العربية تقرير لجنة ملنر سنة 1921، وترجم »‬المرأة والحب» من حديقة أبيقور لأناتول فرانس سنة 1925، و»‬الألم والسعادة» من حديقة أبيقور سنة 1925، ومن هذه الحديقة لأناتول فرانس ترجم أيضًا »‬القمار في نظر المقامر» (1925)، و»‬أناتول فرانس يأبي أن يكون إلهًا» (1926)، وترجم من أدب الغرب »‬باقة من حديقة أبيقور» (1928)، وترجم من أدب الغرب »‬كلهن أرض» عن باقة منقولة من حديقة أبيقور لأناتول فرانس (1931)، وترجم »‬عرائس وشياطين» لمجموعة من الأشعار العالمية (1944)، ولولا هذا التمكن من اللغات الأجنبية ما استطاع العقاد أن يؤلف كتابه »‬فرنسيس بيكون» الذي تضمن قسمه الثاني مقالات ترجمها له، وكذلك كتابه عن »‬بنجامين فرانكلين»، إلي مؤلفاته عن هتلر والنازية، وعن الصهيونية العالمية، وعن شكسبير، وعن برناردشو، وتذكار جيتي، والكتاب الثاني عن مؤلفه الرائع »‬الإنسان في القرآن الكريم»، وعن المذاهب الهدامة، وعن فلاسفة الحكم في العصر الحديث، وكتابه الضافي عن المهاتما غاندي.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف