الدستور
د. مينا بديع عبد الملك
البابا متاؤس المسكين.. الرجل الذى سعى للهروب من البطريركية
كانت كل الدلائل تشير إلى أنه البطريرك القادم، ولكنه كان لا يريد ذلك، فقد تعود منذ صغره أن يعيش غريبًا وكان يود أن يموت كذلك أيضًا، وكلما هرب من الكرسى المرقسى اقترب منه. ويذكر تاريخ الكنيسة الحديث أنه فى أواخر أربعينيات القرن العشرين عندما ذهب د. يوسف إسكندر يوسف للرهبنة بدير الأنبا صموئيل بالقلمون تحت رعاية وإرشاد الراهب الناسك المتوحد القمص مينا البراموسى، فتشبهًا بحياة ونسك البطريرك متاؤس المسكين اختار لنفسه اسم «متى المسكين» الذى كان تاريخ رهبنته يتوافق مع تذكار نياحة البطريرك متاؤس المسكين. عاش متشبهًا بسيرة البطريرك الناسك متاؤس حتى نياحته فى ٨ يونيو ٢٠٠٦ بدير أنبا مقار بوادى النطرون.
أما البطريرك متاؤس فمنذ مولده فى قرية تابعة لملوى بالصعيد، كان يقوم ــ وهو طفل ــ بتقليد كاهن القرية فى خدمته، وعندما ترهب بالدير كانت أمه الواعية تنظر وتتعجب من نسكه الشديد وهو راهب صغير ــ يحمل اسم «متى» ــ فقد كان يعيش فى مقر أسقف إحدى المدن فى الصعيد، وكان يرعى الغنم لكى يكون حرًا فى صلاته وصومه وتأملاته، وكان جميل الصورة، فتعرض لإغواء من سيدة كانت تتابعه وهو يرعى الأغنام فسألها ما الذى يعجبك فى راهب فقير لا يملك شيئًا؟، فقالت له عيناك، عندها أمسك سكينًا صغيرًا وجرح حاجبيه، فلما رأت المرأة الدم يغطى وجهه هربت ولم تعد، ولكن الراهب الصغير أيقن أنه لا بد أن يعود لديره فماذا يفعل والأسقف يحبه ومتمسك به!، فاهتدى إلى وسيلة متشبهًا بما فعله داود النبى عندما تظاهر بالجنون، فقام الراهب بجمع ملابس الأسقف ومزقها! ولما رأى الأسقف ذلك أطلقه ليعود إلى ديره. ولكن الله شاء أن يعرف الأسقف ما حدث من تلك السيدة وما فعله الراهب الشاب، فاستدعاه ورقاه لدرجة كهنوتية، وعندما جاء أب اعتراف الراهب وهو القمص متى الفانى (من دير القديس أبوفانا بملوى) وعاتب الأسقف على سيامته للراهب الصغير قسًا قال الأسقف: (إن هذا الصغير سيصير كبيرًا فى الكنيسة وهو متابع لحياته الروحية ونسكه الذى لم يبلغه أحد مع صغر سنه). ولما شعر الراهب القس «متى» باهتمام الأسقف به وأنه ينال تكريمًا متزايدًا هرب ومضى إلى دير أبى الرهبان الأنبا أنطونيوس فى الصحراء الشرقية، ظنًا منه أنه فى تلك الصحراء البعيدة سيمضى بقية حياته متعبدًا فى هدوء. وفى دير الأنبا أنطونيوس لم يذكر لهم أنه كاهن بل شماس صغير وظل يخدم كشماس، ولكن انتشرت السيرة الحسنة للراهب «متى». وفى الدير أدرك الرهبان أن هذا الراهب سينال رتبة رفيعة فى الكنيسة، ولما علم بذلك حمل عصاه وهرب إلى أورشليم القدس، حيث اختفى هناك فى جبالها يتعبد. ولكن الله يكشف قداسته لأنه مختار بالحقيقة ليجلس على الكرسى المرقسى. ويعود الراهب «متى» إلى دير الأنبا أنطونيوس ومنه إلى دير المحرق بصعيد مصر وكل أمله أن يمضى حياته راهبًا غريبًا فى مغارة تحت الأرض.
تنيح (توفى) البابا جبريال البطريرك الـ٨٦ فى ٢٨ أبريل ١٣٧٨م، ولم يجد الأراخنة ولا الأساقفة أحق من الراهب «متى» ليكون البابا الجديد فذهب وفد منهم الى دير المحرق لكى يرجعوا بالراهب المختار. فما إن عرف بما يحدث هرب فى مركب متجه جنوبًا ولما لم تكن هناك رياح فى ذلك اليوم فقد تأجلت الرحلة إلى اليوم التالى، لكن تعّرف على الراهب الهارب طفل صغير، فأرشد الأراخنة إليه وقال لهم من تبحثون عنه موجود مختبئًا فى أسفل المركب، فأمسكوا به فأدرك الراهب أنها ربما تكون النهاية فطلب منهم بدموع أن يزور آباءه الرهبان فى دير الأنبا أنطونيوس بالبحر الأحمر، فذهبوا معه وقابلوا شيوخ الدير هناك ومنهم الأب مرقس الأنطونى الناسك، فقال له الأب مرقس الأنطونى: (لا تترك ما رُسم لك، وألا تفارق الخدمة المدعو لها). فرجع الراهب «متى» إلى القاهرة مع وفد الأراخنة والأساقفة، وهناك فى القاهرة قام الراهب بشىء أخير ربما يساعده لكى يهرب من الكرامة التى قد يسعى إليها كثيرون لا يستحقونها وربما بذلوا المال وربما أشاعوا الرؤى والشائعات لنوال هذه الكرامة وربما لجأوا إلى طرق عالمية أخرى للوصول إلى الكرسى! ولكن الراهب حاول أن يقطع لسانه فيكون غير مؤهل للكرسى المرقسى لأنه ينبغى أن يكون صحيح الجسم والنفس والقوى العقلية بلا أمراض، ولكن الله نجاه ليحفظه للكنيسة. وهنا نجد الراهب «متى» كان يفضل أن يعيش صامتًا أخرس على أن يكون بطريركًا، وغيره نسى أن الله يهيئ لكنيسته الراعى الصالح الذى يبذل نفسه عن الخراف لا أن يبذل الخراف أنفسهم من أجل راحته وشهوته فى الرئاسة.
وحملوه إلى الكنيسة مقيدًا بالسلاسل خوفًا من الهرب، وتمت سيامته بطريركًا باسم البابا متاؤس المسكين فى ٢٥ يوليو ١٣٧٨م، وهو الـبطريرك ٨٧ فى سلسلة البطاركة العظام، و«متاؤس» يعنى «متى»، وكان يُطلق عليه اسم «متاؤس الكبير»، وبعد السيامة لم يتخلَ عن حياة التواضع يومًا واحدًا وكان شعاره طيلة فترة خدمته تلك الكلمة التى قالها يومًا السيد المسيح: (ولكن أنا بينكم كالذى يخدم)، وكما جاء فى سفر الأمثال لسليمان الحكيم: (تَأْتِى الْكِبْرِيَاءُ فَيَأْتِى الْهَوَانُ، وَمَعَ الْمُتَوَاضِعِينَ حِكْمَةٌ). وتنيح هذا البطريرك العظيم فى ٥ طوبة ١١٢٥ للشهداء (الموافق فى ذلك الوقت ٣١ ديسمبر ١٤٠٨م) بعد أن أقام على الكرسى ٣٠ عامًا، ٥ أشهر، ٦ أيام، ودُفن بدير الأنبا رويس بالخندق بالقاهرة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف