بوابة الشروق
مدحت نافع
عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون
تعلمت منذ سنوات طوال من العمل فى البورصة أن كل سلسلة زمنية تبلغ قاعا لابد لها من نقطة انقلاب. صحيح أن معرفة القاع ليست سهلة وصحيح أن البعض يتصور أن البيانات التى يرصد اتجاهها قد بلغت القاع وهى بعد مستمرة فى التراجع، لكن هذا الأمر يمكن التثبت منه بقراءة البيانات فى سياقها الصحيح، وإخضاعها لنماذج التنبؤ المتفاوتة فى الدقة والاعتمادية.

العام الحالى ينطوى على فرص عدة يتطلع إليها الاقتصاد المصرى. عام يأتى فى أعقاب سبع سنوات عجاف تزامنت بدايتها مع ثورة يناير، تلك الثورة التى رفعت شعارات الحرية والعدالة الاجتماعية لكن المغامرين بها أجهزوا على الاقتصاد بقصد وبغير قصد، حينما أغرقونا فى المطالب الفئوية تارة وعطلوا الإنتاج والسياحة وبددوا احتياطى النقد الأجنبى تارة أخرى.
نستقبل عام ٢٠١٨ بتحسن التصنيف الائتمانى لمصر وتحول النظرة المستقبلية لجدارتنا الائتمانية إلى النظرة الإيجابية. نستقبله بمعدلات تضخم اتجهت إلى التراجع بعد أشهر طوال من الارتفاع المستمر والمتواصل فى المستوى العام للأسعار. التراجع فى معدلات التضخم لا يعنى تراجع الأسعار كما يعتقد البعض، بل تراجع وتيرة الارتفاع فى الأسعار وقد سجلت معدلات التضخم السنوية لشهر ديسمبر ما نسبته 19.8 % نزولا من 25.54% الشهر السابق. التراجع فى معدلات التضخم يغرى بأسعار الفائدة إلى التخفيض الحتمى، فأسعار الفائدة الحالية فى البنوك توفر بديلا مغريا لأى مشروع استثمارى، وينتج عنها تراكم المدخرات وحبسها فى أوعية استثمارية مرتفعة العائد بالنسبة للمودعين لكنها منخفضة العائد المجتمعى، إن هى لم تخرج من تلك البنوك فى صورة قروض لتمويل مشروعات إنتاجية فى المجالين السلعى والخدمى. كذلك يعد ارتفاع احتياطى النقد الأجنبى مؤشرا مهما للتحسن فى هيكل ميزان المدفوعات، بغض النظر عن بعض التفاصيل التى من شأنها التخفيض من سقف التوقعات تجاه هذا الارتفاع، كونها لا تنفى أهميته على الإطلاق.

***

نستقبل العام الجديد بعدد من المشروعات التى انتهت فترات البناء فيها أو هى أوشكت على الانتهاء. فترة تجهيز المشروعات العملاقة خاصة مشروعات البنية الأساسية هى بالوعة للسيولة وتتضمن الكثير من النفقات الغارقة sunk costs والتى لا تسترد إلا بعد سنوات من عمر المشروع. آن لمشروعات الطرق والكبارى أن تؤتى بعض ثمارها فى هيئة مشروعات صناعية وتجارية وسكنية، آن لمشروع ازدواج الخط الملاحى لقناة السويس ومشروعات تنمية المحور بأكمله أن تبدأ فى الإثمار من خلال توفير فرص عمل انتقالية تعمل فى إنشاء وتأسيس المشروعات الإنتاجية والتى تتضمن استثمارات أجنبية مباشرة. منطقة المثلث الذهبى باتت تجتذب العديد من المستثمرين العرب والأجانب للاستفادة من الامتيازات المخصصة لهذا الموقع الهام الزاخر بالثروات الطبيعية والتى نصر على عدم تصديرها فى صورتها الخام وقبل أن تكتسب قيمة مضافة ترفع من سعرها وتعزز تنافسيتها فى الأسواق الخارجية. مدن الصعيد مثل المنيا الجديدة بدأت تشهد تخصيص أراضٍ على نطاق واسع بغرض الاستخدام الصناعى الذى يحصل على امتيازات متى كان جانبا من الإنتاج مخصص للتصدير.
يمكن أن يكون العام الحالى عام حصاد اقتصادى مثمر، إذا تعاملنا مع بدائل التمويل بصورة جادة، ونظرنا فيها قبل الشروع فى تنفيذ المشروعات الكبرى. كلما تراجع الاعتماد على الموازنة العامة للدلوة لتمويل احتياجات التنمية، وزاد دور القطاع الخاص الوطنى والأجنبى، كانت هناك فرصة جيدة لذلك الحصاد المأمول.

العام الحالى تبدأ فترة رئاسية جديدة، يتحقق معها استقرار فى الرؤية الاستراتيجية للبلاد، ووضوح فى المسار الاقتصادى الذى لا يرتبط بتوقعات كتلة الناخبين بقدر ارتباطه بالجدوى الاقتصادية والاجتماعية لذلك المسار. عام تهدأ فيه حدة الصراعات الإقليمية نسبيا، وتغلب عليه آمال دول كبرى فى فتح أسواق جديدة فى شمال وشرق إفريقيا عبر بوابة تربطها اتفاقات تجارة حرة وعلاقات متميزة مع دول المنطقة. الصين بحزامها الاقتصادى وطريقها الجديد مثال حى تتجسد فيه تلك الآمال. البناء على علاقات طيبة مع الصين ومصالح مشتركة تتمثل فى مشروعات صينية على أراض مصرية تصبح قاعدة للتصدير إلى إفريقيا ومختلف دول العالم، هو أيضا اتجاه جديد يفسح لنفسه مجالا فى العام الحالى.

المنافسة الهندية ــ الصينية تخلق فرصا لبدائل شراكة متعددة فى المناطق الاقتصادية الجديدة، وفى مشروعات تطوير الشركات المملوكة ملكية خاصة للدولة. فالهند التى احتلت موقعا متميزا كإحدى دول مجموعة «بريكس» أمكنها تعويض الفجوة التى خلفتها الصين بتراجع نسبى فى معدلات نمو اقتصادها.

***

فى العام الحالى توجد تحديات كثيرة كلها قابلة للمواجهة والحسم، خاصة أن معظم تلك التحديات هى محض تراكمات سابقة وعيوب هيكلية فى الاقتصاد المصرى. استمرار عجز الموازنة والذى يتوقع أن ينحسر قليلا مع بدء تحقيق فائض أولى فى موازنة العام الحالى. صحيح أن هذا الفائض قد بنى على توقعات متفائلة ومن الجائز أن يأتى الحساب الختامى بشىء من الحيود عن تلك التوقعات، لكن الحرص على تحقيق فائض أولى يعكس اهتماما حكوميا بالتحدى الثانى وهو الدين العام. فالدين العام قد بلغ مستويات مرتفعة، لكن ما يشغلنى هو معدل نمو الدين الخارجى الذى تجاوز 40% فى بعض الفترات وخلال ربع سنة فقط! كثيرا ما أكدت على أن المعيار المناسب للاستدانة من الخارج ليس القدرة على جمع القروض من مصادر مختلفة، وإنما القدرة على السداد دون ضغوط كبيرة على الموازنة العامة والتى لا تجد متنفسا إلا بضغط المصروفات. وهنا يأتى دور التحدى الثالث المتمثل فى ملف الدعم، والذى يعد أسوأ ما فيه عدم وصوله إلى مستحقيه، ومن ثم فترشيد الدعم لا يتضمن بالضرورة رفعه تماما وإنما وصوله إلى من يستحقه وقبل ذلك التأكد من دقة حسابه. فما يشار إليه باعتباره دعما موجها لإنتاج وتوزيع الطاقة بمنتجاتها المختلفة كثيرا ما يتضمن خطأ فى تقدير التكاليف، ومن ثم فمراكز التكلفة التى يحتسب على أساسها مخصص الدعم ربما اشتملت على أجور ومكافآت غير مستحقة، وعيوب فى أعمال الصيانة، واستنزاف للموارد فى شبكات متهالكة للتوزيع والتحويل (على سبيل المثال). كذلك فكفاءة التشغيل تستلزم جودة التحصيل والحرص على حماية المنتج من السرقة، وليس أشهر من سرقة التيار الكهربائى فى المنتجعات وحرق أنابيب البوتاجاز فى أقمنة الطوب كدليل على إهدار الموارد.

***

من التحديات الاقتصادية الهيكلية استمرار التضخم وعجز ميزان التجارة وارتفاع أسعار الصرف للنقد الأجنبى وارتفاع معدلات الفائدة...لكن يظل التحدى الأكبر فى هذه المرحلة متمثلا فى البيروقراطية العقيمة والفساد المؤسسى الذى وضعت الدولة خطة واضحة للتعامل معه وكلفت هيئة الرقابة الإدارية بملف الفساد وبإدارة استراتيجية عامة لمكافحته، بالاستعانة بالطبع بالعديد من الجهات ذات الصلة. الإشارات الإيجابية العديدة التى أرسلتها هيئة الرقابة الإدارية خلال العامين الماضيين ساهمت فى التضييق على الفساد ومحاصرته فى كثير من المؤسسات، وبمضى الوقت ومع تمرس الهيئة فى أعمال الرقابة الوقائية واللاحقة سيتم ترشيد تلك الإشارات بحيث لا تنطوى على دلالات مخيفة للمستثمر ومعززة لمنطق الأيادى المرتعشة فى الجهاز الإدارى للدولة.

وزارة التخطيط والإصلاح الإدارى معنية أيضا بنصيبها من أعمال إعادة الهيكلة الإدارية وتحسين إنتاجية العاملين فى الجهاز الإدارى للدولة، مع وضع مختلف الضوابط الرقابية لوقف نزيف الفساد الإدارى والهدر المؤسسى الممنهج الذى تشهده العديد من المؤسسات المصرية.

العام الجديد ربما يشهد مزيدا من التواصل بين الحكومة والشعب فيما يتعلق بالجانب التنفيذى من رؤية مصر 2030 مع تفعيل دور المتابعة المتصلة بعملية التخطيط الاستراتيجى كما هو متبع ومتعارف عليه. كما إنه من المأمول أن ينشغل نواب البرلمان فى العام الحالى بكثير من تفاصيل تحسين ظروف المعيشة للمواطنين، والعمل على تخفيف الآثار والتبعات السلبية لعملية الإصلاح الاقتصادى.

العام الجديد زاخر بالآمال والطموحات، لكن العمل وحده هو القادر على تحويل تلك الآمال إلى واقع معيش.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف