الوطن
ناجح ابراهيم
رحلة الأبوة فى وجدان الأبناء
حينما كان عمرى 4 أعوام كنت أقول: أبى هو الأفضل والأقوى.

وعندما وصل عمرى إلى 6 سنوات قلت: أبى يعرف كل الناس ويقدر على كل شىء ويستطيع فعل أى شىء.

وعندما بلغت العاشرة من عمرى قلت: أبى ممتاز، ولكن خُلقه ضيق وسريع الغضب.

وعندما وصل عمرى 12 عاماً قلت: أبى كان لطيفاً معى عندما كنت صغيراً.

وحينما بلغ عمرى الـ14 عاماً قلت: أبى أصبح حسّاساً جداً ويضيق برغباتنا ولا يتحمل أى طلب أو رغبة لنا، ويرفض طلباتنا المشروعة التى نراها يسيرة عليه.

وعندما بلغ عمرى 16 عاماً قلت: أبى لا يصلح لعصرنا، ولا يتطور معه، وفكره قديم بالٍ، وعليه أن يُطوّر فكره مثلنا وإلا فسيفقد صلاحيته للحياة العصرية.

وأنا عمرى 18 عاماً قلت: أبى أصبح قاسياً وشديداً.

وأنا عمرى 20 عاماً قلت: من الصعب جداً أن أسامح أبى على طريقته فى التعامل معى، كيف استطاعت أمى تحمله والصبر عليه كل هذه السنين.

وأنا عمرى 25 عاماً قلت: أبى لا يعجبه شىء من تصرفاتى ويعترض على كل ما أفعله مع أن تصرفاتى أفضل من تصرفاته، لا أدرى لماذا لا يُصلح نفسه قبل أن يدعونا للإصلاح.

حينما بلغت الثلاثين قلت: من الصعب جداً أن أتفق مع أبى أو يجمعنا جامع معه، لعل جدى تعب مع أبى كثيراً حينما كان شاباً، إنه يبدو شديد المراس.

بعد أن تزوجت وكبر أولادى وأصبحت فى الأربعين قلت: أبى ربّانى على الكثير من الضوابط الأخلاقية والدينية، ولا بد أن أفعل نفس الشىء مع أبنائى قبل أن يتفلّتوا ويفسدوا ولا أستطيع إصلاحهم.

حينما بلغت 45 عاماً قلت: إننى فى حيرة من أمرى، كيف استطاع أبى أن يحسن تربيتنا جمعياً ويوصلنا إلى بر الأمان مادياً وأدبياً؟!

حينما بلغت الخمسين عاماً قلت لنفسى: ما هذا، لقد مات أبى ولم أعرف الجهد الكبير الذى بذله معنا، إنه من الصعب التحكم فى أطفالى وأولادى، آه.. لقد تكبّد أبى عناءً كبيراً من أجل أن يحسن تربيتنا ويحافظ علينا فى خضمّ الحياة الهائل، لم أكن أعلم أن تربية الأولاد صعبة هكذا!.

حينما وصلت 55 عاماً قلت: أبى كان صاحب نظر ثاقب فى تربيتنا وتنشئتنا رغم بساطته الظاهرة التى كانت تُخفى عمقاً كبيراً، لقد خطط أبى جيداً لكل شىء، وترك لنا خيراً كثيراً وسيرة طيبة ألمسها فى كل من يقابلنى، فقد كان متميزاً ورحيماً.

عندما كان عمرى ستين عاماً قلت: أبى كان الأفضل والأعقل، رجع الابن إلى نفس الحكم الذى أطلقه على أبيه وعمره 4 سنوات، رجع إلى نظرته الشفافة البيضاء التى لم تتلوث بوساخات المراهقة المجنونة، هذه الدورة استغرقت من هذا الابن 56 عاماً كى يدرك حقيقة عطاء وفكر وبذل والده.

هذه الحقيقة التى مكث فترة طويلة كى يعرفها أعطاها له القرآن فى آية واحدة «وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيراً»، فهذه التربية والكفالة والرعاية والحماية والعطاء اللا محدود والأشبه بـ«عطاء الربوبية» دون منٍّ ولا أذى والذى لا ينتظر مقابلاً، كل هذا العطاء لمدة ثلاثين عاماً متواصلة لكل ابن ليس شيئاً سهلاً ولا يسيراً، إنه عطاء الربوبية فى دنيا الناس.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف