الأهرام
صلاح سالم
السر الكبير
تكتسب الأمم حريتها أحيانا بحكمة التجربة التاريخية وعبر تطور اجتماعى طويل كما كان الأمر فى بريطانيا منذ زمن الماجنا كارتا مطلع القرن الثالث عشر الميلادى، وأحيانا أخرى عبر ميلاد جديد فى زمن موات وعلى يدى نخبة حاذقة كما كان إعلان الاستقلال وتكوين الاتحاد الأمريكى، وأحيانا ثالثة عبر ثورات تحررية تمارس القطيعة مع الموروث السياسى التقليدى وتفضى إلى واقع جديد رغم تعثر بداياتها كما يلهمنا النموذج الفرنسى. أما فى مصر فيتبدى التاريخ ممتدا، ولكن خارج رحم الحرية، إذ لم تتمكن الثقافة المصرية ـ كالثقافة العربية الأم ـ من إنجاز قطيعة تاريخية مع البنية الرعوية الموروثة عن العصور التقليدية، فحتى مطلع القرن العشرين لم تكن هناك حركة علمية، ولا منهجية تفكير جديدة تطرح أسئلتها الجذرية على الواقع بشكل نقدى، بعيدا عن النمط الفكرى السائد والقائم على الحدس والتأويل والمستند إلى السلطة المعرفية للدين وعلم الكلام وليس الفلسفة التحليلية أو العلم التجريبى، ومن ثم عانت مصر ما يمكن تسميته بحالة «القابلية للانقطاع». والفارق هنا كبير بين القطيعة التاريخية كتحول بنيوى يتم من خلاله تجاوز حقبة زمنية لها ملامحها المائزة إلى أخرى أكثر تحررا أو تقدما، كالانتقال من التقليد إلى الحداثة، أو من العصر الزراعى إلى نظيره الصناعى.. إلخ. وبين القابلية للانقطاع، حيث تنتفى القدرة على مراكمة الخبرات التاريخية، مع الوقوع فى فخ العودة إلى نقطة الصفر من جديد عقب كل تجربة حكم، حيث المجتمع لين العريكة وقابل للتشكيل دائما مثل مادة فخارية بحسب رؤية كل حاكم جديد، وكأنه صانع فخار لا يجد ممانعة تذكر فى تشكيل مادته مرة بل مرات أخرى، وعلى هذا يكون الانقطاع بمنزلة حركة فى المحل على أحسن الأحوال، ونكوص إلى الخلف فى أسوئها.

وعلى هذا ظل المجتمع المصرى القاعدى يراوح عند نمط الإنتاج الزراعى وعلاقات الإنتاج الرعوية (شبه الإقطاعية) ووسائل إنتاجه الموروثة عن العصر الفرعونى «الطنبور والساقية» عاجزا عن تشكيل كتلة تاريخية حديثة ذات حضور سياسى، ورؤية ثقافية، وأنماط تنظيمية تميزها وتكفل لها نوعاً من الاستمرارية تدفعها للقتال من أجل الحفاظ عليها. ولهذا فقد انتكس مشروع التحديث العلوى، برحيل مؤسسه، وفقد المجتمع كثيرا من مكاسبه فى عهد الخديو عباس الأول، خصوصا مع عودة نظام الالتزام فى الأرض الزراعية والذى كان يجعل من الفلاح المصرى عبدا للأرض يشبه «القنب» الأوروبى فى الإقطاع الفرنسى النموذجى، أما الملتزم كوسيط بين الإقطاعى الكبير فى المدينة غالبا والفلاحين فى الريف فيشبه ما كان يسمى أوروبيا بـ «الفصل الإقطاعي» الذى يتوسط بين النبلاء فى الدوقيات الكبيرة والفلاح فى الضيعات الريفية. كما تم النكوص عن مساواة المصريين فى الترقية كضباط داخل الجيش بعد أن منحهم محمد على هذا الحق. أما عصر إسماعيل فشهد بناء القاهرة الحديثة نعم ولكن على أرضية مجتمعية رعوية فى عموم مصر، وأيضا إقامة مجلس شورى للنواب وكان ذلك أمرا رائدا لو صاحبه تحديث اجتماعى واسع. كما أقام الرجل دار أوبرا تستقبل وتعرض فنونا موسيقية وألوانا من الغناء لم يكن فى مصر من يستطع تذوقها ناهيك عن أن ينتجها سوى الأجانب ونخبة الإقطاع الرعوى، أما الأخطر من ذلك فكونه بناها احتفالا بافتتاح قناة السويس المنهوبة، وعلى شرف الإمبراطورة الفرنسية ممثلة الدولة الناهبة، ومولها بقروض أجنبية عجزت الحكومة عن سدادها فصارت ذريعة لاحتلال مصر.

فى ركاب ثورة 1919 ودستور 1923 والحقبة الليبرالية ولدت حركة استنارة مصرية راوح رموزها بين علمويين كإسماعيل مظهر وشبلى شميل وسلامة موسى، وليبراليين كالعقاد ومحمد حسين هيكل وطه حسين وأحمد لطفى السيد، حاولوا بشكل جدى إحداث قطيعة ثقافية مع الماضى الذى ساده التقليد وهيمن عليه النقل، ولكن الضعف السياسى فى ظل الاحتلال البريطانى جعل أفقها مسدوداً، واضطرها إلى اتخاذ طابع فوقى فلم تمس الجسد الاجتماعى الذى ظل رعويا عند القاعدة، فكان الفلاحون يضربون بالسياط داخل الوسايا الإقطاعية، قبل أن يجرى حشدهم من عمد ومشايخ القرى كى يبصموا على رموز المرشحين فى الانتخابات البرلمانية، لأنهم غير قادرين على قراءة أسمائهم. ورغم أنهم كانوا يصوتون لصالح الوفد فإنه لم يحكم سوى سبع سنوات وبضعة أشهر طوال ثلاثة عقود، بفعل ضغوط القصر والاحتلال التى أحالته إلى حزب محافظ رغم بدايته الثورية، فلم يتحرك خطوة واحدة على طريق الإصلاح الزراعى رغم وجود تصورات أوليه لتحديد الملكية بألف فدان لحل ما سمى آنذاك «المشكلة الاجتماعية». بل إن مشروعا متواضعا لمكافحة الحفاء فى الريف اعتبر مشروعاً قومياً استمر طرحه على البرلمان لنحو العقد دون تنفيذ فى النهاية لعدم الحماسة إليه من طبقة سياسية متعالية رغم استنارتها، كان من بينها من يسب الذات الملكية بشجاعة فائقة دفاعا عن الدستور، ومن يرفض مفهوم الخلافة دفاعا عن الدولة المدنية، لكنها لم تمتلك شجاعة المطالبة بالإصلاح الاجتماعى والاقتصادى.

وهنا بالتحديد يكمن السر الكبير فى تناقض زاوية النظر إلى جمال عبد الناصر، عظيم المجد والأخطاء، البطل الأسطورى والرئيس المهزوم، فمن ناحية كرس الرجل حياته لصوغ كتلة حديثة وطبقة وسطى عريضة من فقراء مصر، الذين أحبهم بعمق ومنحهم ثقته، فبادلوه الحب والثقة، ووقفوا خلف ظهره فى لحظة الهزيمة كى لا ينكسر كما بكوه بحرقة عند الرحيل كأب عظيم فى تلك اللحظة التى تمتلك فيها الحقيقة قدرة فذة على الإعلان عن نفسها دون ادعاء أو زيف. لكنه، من ناحية أخرى، سحق النخبة المدنية كلها بذريعة عجز الحقبة الليبرالية وانسداد أفقها الاجتماعى. وبدلا من أن يحل بديلا عن المندوب السامى البريطانى، والملك فاروق؛ تحقيقا لمبدأ الاستقلال وتكريسا لقيم الجمهورية، وان يعتبر نفسه امتدادا لتيار الحركة الوطنية المتدفق من أحمد عرابى وثورته الرائدة، إلى سعد زغلول وثورة الليبرالية، تصور نفسه وثورة يوليو نسخا لكل فصائل الحركة الوطنية، وهنا تساوقت عملية بناء طبقة وسطى واسعة، مع عملية حصار النخبة المدنية الليبرالية، ولو استمرت الأخيرة مع نمو الأولى، لتلاقت أطياف الوطنية المصرية، على أرضية تحديثية واستقلالية وديمقراطية، ولكان لمصر فى التاريخ المعاصر شأن آخر.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف