الأهرام
فتحى محمود
المبدعون لا يرحلون
«ثورة 25 يناير- 30 يونيو، إشارة وبشارة، إشارة إلى ماض مازال حاضرا، وبشارة بمستقبل تتطلع إليه الإنسانية كلها، فالعالم الآن يوشك أن يطوى الصفحات الأخيرة من العصر الذى مزقته صراعات المصالح بين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب، واشتعلت فيه النزاعات والحروب، بين الطبقات والشعوب، وزادت المخاطر التى تهدد الوجود الإنساني، وتهدد الحياة على الأرض التى استخلفنا الله عليها، وتأمل الإنسانية أن تنتقل من عصر الرشد إلى عصر الحكمة، لنبنى عالما إنسانيا جديدا تسوده الحقيقة والعدل، وتصان فيه الحريات وحقوق الإنسان، ونحن المصريين نرى فى ثورتنا عودة لإسهامنا فى كتابة تاريخ جديد للإنسانية».

هذه الكلمات التى تتصدر ديباجة دستور مصر الصادر عام 2014، صاغها بقلمه المبدع الشاعر الكبير سيد حجاب لتلخص رؤيته للواقع المصرى، بل وللإنسانية جمعاء.

لم يكن سيد حجاب مجرد شاعر عامية عرفه الناس من الأغانى التى كتبها لأجيال عديدة من المطربين، إنما كان صاحب مشروع فكرى متميز عبر عنه بالكتابة والممارسة وامتاز بالحس الشعبى العميق، ليصبح امتدادا لمدرسة مصرية عريقة أنجبت بيرم التونسى وصلاح جاهين وفؤاد حداد وأحمد فؤاد نجم وعبد الرحمن الأبنودى وجمال بخيت وفؤاد قاعود .. وغيرهم، مدرسة همها الأول الوطن والانسان، لذلك ركزت معظم أعمال حجاب على هذا الثنائى المترابط.

لذلك لم يكن غريبا أن يكون صلاح جاهين هو أول من نشر قصيدة لسيد حجاب فى الستينيات وهى قصيدة «ابن بحر» فى باب (شاعر جديد يعجبني) بمجلة صباح الخير، وقدمه قائلا: اعندما أبحث عن كلمات أقدم بها هذا الشاعر الجديد لا تلبينى إلا الكلمات العاطفية، ولو كان هناك حب من اللحظة الأولى، أكون أنا قد أحببت هذا الشاعر من أول شطرة .. اسمه سيد حجاب، تذكروا هذا الاسم فإنه يعيش طويلا فى حياتنا المقبلة وسيكون له شأن عظيم».

تصدى شاعرنا لهموم الوطن حتى ارتبط اسمه بها، وكان معروفا عنه أنه لا يكتب أى أغنية ـ حتى لو كانت للأطفال ـ إلا وبها مضمون ورسالة مهمة تخص الوطن أو الإنسان، ولذلك كان مغضوبا عليه من السلطة فى أحيان كثيرة، ودفع الثمن راضيا،

وارتبط ارتباطا قويا بثورة 25 يناير حتى إنه يوصف ـ وبحق ـ بأنه أحد مفجريها وفيلسوفها والمدافع عن شبابها، وكان مبشرا بها عندما كتب عام 2009 قصيدته الشهيرة «قبل الطوفان الجاى»، ووصفها بأنها ثورة شعبية عظيمة، غير مسبوقة فى التاريخ الإنسانى، وشاء القدر أن يرحل عنا فى ذكراها العام الماضى تأكيدا لارتباطه بها.

كما تصدى لجماعة الإخوان عندما حاولت اختطاف الدولة، وكان يردد دائما فى عز جبروتهم: «الإخوان لا عهد لهم.. والتنظيم سرق الحلم برعاية قطر وأمريكا».

فى حديثها المطول للأستاذة دعاء خليفة على صفحات «الأهرام» العام الماضى، تصفه السيدة ميرفت الجسر حرم سيد حجاب بأنه «لم يكن أبدا منشغلا برضاء السلطة أوجمع المال، كان دائما متجها للناس، مهموما بهم ويبحث عنهم، ويرى ان دوره الحقيقى هو تشكيل وعيهم والوصول لوجدانهم وأفكارهم، ودون أن ينتمى لحزب أو تنظيم سياسى، وكانت جائزته هى حب الناس، كان كأنه فى حالة تآمر غير معلنة مع الناس».

وإذا كانت هناك ثلاثة طرق معروفة الآن فى مصر مابين التأييد الأعمى والمطلق للسلطة، والمعارضة المطلقة لها (حالة الثورية المستمرة)، والإخوان ومؤيديهم، فإن هناك رؤية أخرى يعبر عنها الزميل والصديق محمد شعير فى كتابه الذى يمثل مشروعا فكريا مهما بعنوان «الثورة العميقة . رحلة الطريق الرابع فى مصر الجديدة»، وهو طريق للباحثين عن الحقيقة دائما وأبدا ، المجاهرين بالتنقل بين منعطفات الآراء بشجاعة، طالما دلتهم ضمائرهم على بصيص شعاع النور، فى الرحلة إلى مصر الجديدة، ينطلقون من أرضية الفكر والواقع معا، هدفهم النهائى فى طريقهم، هو «مصر الدولة الحرة» ، لأن الدولة دون حرية استقرار هش يقود إلى ثورة ولو بعد حين، والحرية دون دولة فوضى كاملة، سرعان ما يتبعها استبداد جديد.

ووفقا لتحليل الاستاذ محمد شعير فإن سيد حجاب من خلال آرائه المنشورة ومواقفه المعلنة، قد سبقنا بالفعل فى «الطريق الرابع»، علما بأن هذا الطريق يحوى دروبا ومسالك شتى.

ويظل سيد حجاب المبدع هو الأصل، فقد نجح فى إبداع فن جديد هو تترات المسلسلات التليفزيونية، التى كانت مجرد مقدمة موسيقية أو غنائية كل هدفها توفير مساحة زمنية لكتابة اسماء المشاركين فى المسلسل، لتتحول على يد شاعرنا الكبير إلى عمل قائم بذاته ينتظره المشاهدون ويعيش فى وجدانهم على مدى سنوات طويلة صالحا لأى زمان ومكان، ولأول مرة يرتبط فى الأذهان جودة المسلسل باسم مؤلف أغنية التتر، وليصبح اسمه مع رفيقه عمار الشريعى على تتر أى مسلسل كفيلا بتحقيق نسبة مشاهدة عالية له.

لقد نجح شاعر العامية المصرية فى الوصول إلى كل الشعوب العربية، لتتحول اللهجة المحلية من حاجز إلى جسر للتواصل، نتيجة الصدق الشديد فى أشعار سيد حجاب والانتماء الذى يميزه ليس للعروبة فقط ولكن للإنسانية جمعاء، وقد رأيت بعينى - وكان لى شرف مشاركته فى رحلة إلى سوريا عام 2010 ضمت عددا من السياسيين والمثقفين والفنانين المصريين - مدى الحفاوة التى كان يستقبله بها اشقاؤنا السوريون فى كل مكان، واحتفائهم بقصيدته «قبل الطوفان الجاى» التى حرص على إلقائها فى كل الأماكن التى زرناها ليبشر بالثورة القادمة.

لكن الإبداع الأكبر فى نظرى أن شاعرنا ومفكرنا الكبير تسلل إلى الوجدان الإنسانى للشعب العربى بشكل عام والمصرى بشكل خاص، فأصبح جزءا من وجدان أجيال كثيرة، لنكتشف أن بداخل كل منا جزءا من سيد حجاب، نتذكره عندما نحب أو نكره .. نثور أو نهدأ .. عندما تواجهنا ضغوط الحياة أو نتردد مابين التحدى والانكسار.. عندما يأخذنا الزمان فى طريق «ممنوش رجوع» .. ونحن نجرى «ورا نفس السراب».

سيد حجاب «بيقوينا» حسب تعبير صديق أعتز به كثيرا.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف