الأهرام
د. نصر محمد عارف
بالتعليم والقانون تُبنى الدول وتُهدم أيضا
حقيقة تاريخية تشهد لها مجتمعات الأرض، أن بناء المجتمع والدولة يبدأ بنهضة تعليمية حقيقية، ونظام قانونى عادل نافذ على الجميع بصرامة وفعالية وحسم، ودون هاتين القاعدتين لا قيمة لأى إنجاز اقتصادي، أو تنظيمات ومؤسسات سياسية، أو تقدم تكنولوجي، أو ثراء مالى ناتج عن مصادر ريعية من بيع مواد خام.

لماذا التعليم والقانون هما الأساس والقاعدة والأصل، وكل ما عداهما فرعى وتابع؟ والجواب لأنهما هما الوسيلة الوحيدة لضمان الاستدامة؛ لأنهما يتعلقان بالعنصر الإنساني، بالفرد والجماعة، فبدون التعليم يفقد الفرد وجوده، ويتحول إلى كائن حى متحرك؛ قابل للتغير والتحول فى أى اتجاه يريده من يملك توجيهه والتحكم فيه، فالتعليم هو أساس بناء الإنسان القادر على بناء الحضارة، وتحقيق التنمية والحفاظ عليها، أما القانون فهو أساس بناء المجتمع، وتنظيم علاقة الفرد بغيره من الأفراد، وضمان عدم اعتداء القوى على الضعيف… القانون هو الذى ينشئ المجتمع، وينظم علاقات أفراده. لذلك فإن الأديان الكبرى فى العالم جاءت بالتعليم والقانون، وهنا التعليم بمعناه كل وسائل تكوين عقل الإنسان، وبناء ثقافته، التى تحدد سلوكياته، وتنظمها، وتتحكم فى أفعاله وترسم مسار وطرق تعامله مع كل ما يحيط به، والتحولات الكبرى فى حياة الأمم والدول تتم من خلال التعليم والقانون، فأى أمة تريد أن تنهض، أو يراد لها أن تنهار يكون التعليم والقانون هما الوسيلة الأولى، والطريق الأسرع، وأى أمة تريد أن تحول مسارها وتغير هويتها، فإنها تبدأ بالتعليم والقانون، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية تم تغييرهما بالتعليم والقانون. ولنأخذ نموذج مصر فى عهد أبناء محمد على تحت نفوذ الدول الدائنة بريطانيا وفرنسا، ثم تحت الحكم المباشر لبريطانيا منذ 1882، سنجد أن أول التغييرات الجذرية تمت فى التعليم، فقد رأت القوى الاستعمارية أن الأزهر الشريف، وهو المؤسسة التعليمية الأرقى والوحيدة فى مصر فى ذلك الوقت لن يكون من السهل إخضاعها، وتدجين الدارسين فيه، والتحكم فيهم، لإدخال مصر فى نسق التقدم الأوروبي، لذلك تم إنشاء مؤسسات خارج الأزهر لضمان أن يكون من يتولون شئون التعليم والقانون من غير خريجى الأزهر. فتم أولا إنشاء مدرسة دار العلوم عام 1872 لتخريج المعلمين اللازمين لتدريس اللغة العربية والآداب بالمدارس الابتدائية والتجهيزية، وفى عام 1885 أنشئ بدار العلوم قسم للترجمة لإعداد المترجمين المتخصصين اللازمين للعمل بالمدارس العليا لترجمة الدروس التى تلقى باللغات الفرنسية والإنجليزية إلى اللغة العربية، وفى عام 1888 أضيفت مهمة جديدة لدار العلوم وهى إعداد الخريجين للعمل بوظائف المحاكم الشرعية، وعدلت مناهج الدراسة بما يحقق هذا الهدف، وبعد تخرج أفواج فى دار العلوم دخلت مصر فى حالة حرب أهلية ثقافية، بين خريجى الأزهر الذين يرون أن المتخرجين فى دار العلوم ليسوا بنفس التعمق فى العلوم الدينية واللغة العربية، فلم يحفظوا المتون، ولم يدرسوا الأصول، وعلى الجانب الآخر يرى خريجو دار العلوم أن الأزاهرة موضة قديمة، وهنا بدأ الصراع بين العمامة والطربوش الذى كان من نتائجه ظهور حركة الإخوان المسلمين التى أنشأها مدرس الخط العربى خريج دار العلوم الأستاذ حسن البنا؛ الذى كان يحتقر الأزهر ويتجاهل علماءه، ثم بعد ذلك تخلت الجماعة عن دار العلوم، وأصبحت تجند أعضاءها من الطب والهندسة، وبذلك تباعدت الشقة بينها وبين التقاليد الدينية الراسخة فى الأزهر الشريف.

والشيء نفسه حصل مع القانون، فبعد أن كان المشتغلون بالقانون من خريجى الأزهر الشريف، حين كان القانون من الشريعة، أنشئت فى 1886مدرسة الحقوق وانقسمت إلى قسمين (ابتدائى وعالي) أما القسم الابتدائى فكان يشمل السنتين الأولى والثانية، وكان الغرض منه تخريج المحضرين وموظفى اقلام الكتاب فى المحاكم، أما القسم العالى فكان مكونا من ثلاث سنوات دراسية، ويهدف إلى تخريج رؤساء أقلام الكتاب، وأعضاء النيابة، وغيرهم من الموظفين الذين تتطلب وظائفهم ثقافة قانونية.وبدأت هذه المدرسة تخرج العاملين فى القضاء العام، وانزوى خريجو الأزهر فى القضاء الشرعى المتعلق بأحكام الأسرة، ودخلت مصر فى متاهات الازدواجية بين الشريعة والقانون، وعلى نفس المنوال سارت جميع الدول العربية بعد ذلك، ومع ظهور الحركات الدينية من خارج مؤسسات التعليم الدينى صار شعار تطبيق الشريعة هو كلمة السر التى تجذب الجماهير بوعى أو دون وعى ....

وحتى بعد أن صارت الشريعة هى مصدر القوانين، لكن الثنائية التاريخية أربكت المشهد بعد ذلك إلى اليوم. ومن خلال فهم هذه التجربة التاريخية يمكن أن نخلص إلى حقيقة تقول إن محاولات النهوض الحالية بمصر لن تتحقق دون إصلاح التعليم، وتوجيهه الوجهة التى تريدها مصر، وإصلاح القوانين، بما يحقق الحزم والعدالة الناجزة، ويضمن حقوق الأفراد، وينظم علاقات المجتمع، ويضبط السلوكيات العامة، وأى إنجاز دون ضمان رسوخ هاتين القاعدتين: التعليم والقانون سيكون إنجازاً مؤقتاً غير قابل للاستدامة. بالتعليم والقانون تُبنى الأمم وترقى على سلم الحضارة، وتسمو قيمها وأخلاقها، وتصير نموذجا به يقتدى الآخرون، ودون التعليم والقانون تنهار الأمم وتتدهور وتدخل فى حالة تخلف مزمنة.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف