الأهرام
د/ شوقى علام
الخلل فى المفاهيم ‎(21) الوسيلة
حينما يسعى المسلم مثلا للصلاة فى المسجد الحرام أو الدعاء عند قبر المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم يكون ذلك تعظيمًا لما عظَّمه الله من الأماكن، وعندما يتحرى قيام ليلة القدر يكون ذلك تعظيمًا لما عظمه الله من الأزمنة، وحينما يتقرب إلى الله بحب الأنبياء والأولياء وزيارتهم أحياء ومنتقلين يكون معظمًا لمن عظمه الله من الأشخاص، وعندما يتحرى الدعاء حال السفر وعند نزول المطر يكون معظما لما عظّمه الله من الأحوال.. وهكذا.
ذلك لأن تعظيم كل ما عظمه الله تعالى من الأمكنة والأزمنة والأشخاص والأحوال مطلوب شرعًا لدخوله تحت “الوسيلة”، وهى تعنى فى اللغة: المنـزلة، والوصلة، والقربة، وتطلق اصطلاحًا على: التقرب إلى الله تعالى بكل ما شرعه سبحانه، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِى سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة: 35].
وتظهر من خلال ذلك معانى وسمات مفهوم “الوسيلة”، وعلى هذا قامت الأدلة الشرعيَّة وجرى عمل الأمة سلفًا وخلفًا، لكن اختل هذا الفهم لدى أصحاب الفكر المتطرف وأهل التشدد حتى خلطوا بينه وبين مفهوم “الشرك”، الذى هو: صرف شيء من العبادة لغير الله على الوجه الذى لا ينبغى إلا لله تعالى، حتى ولو كان ذلك بغرض التقرب إلى الله؛ ومن ثَمَّ انطلقوا من هذا الفهم القاصر فأطلقوا أوصاف الشرك وأحكام الكفر على أقوال المسلمين وأفعالهم، مع الاستدلال على هذا الشذوذ وفق منهجهم الانتقائى بالآيات الواردة فى عبادة المشركين لغير الله كقوله تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى) [الزمر: 3].
كما أنهم تعلقوا وتمسكوا بأن كل ما وافق فى ظاهره العبادة يعتبر “عبادة”، وهو ظن واضح البطلان حيث يشترط فى معنى العبادة الإتيان بها “على الوجه الذى لا ينبغى إلا لله تعالى”؛ فالدعاء قد يكون عبادة للمَدْعُوّ كما فى قوله تعالى: (إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلا إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَّرِيدًا) [النساء: 117] وقد لا يكون كذلك كما فى قوله تعالى: (لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا) [النور: 63]، كما أن الاستعاذة قد تكون عبادة للمستَعاذ به كما فى قوله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) [النحل: 98] وقد لا تكون كما فى حديث أبى مسعود البدرى رضى الله عنه أنه كان يضرب غلامه، فقال الغلام: أعوذ برسول الله، فتركه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَاللهِ لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ»، فأعتَقَه (صحيح مسلم/ 1659). لقد فات هؤلاء أن يقفوا على اعتقاد أهل السنة أنه لا مؤثر فى الكون على الحقيقة إلا الله سبحانه، وأن الأسباب لا تثمر المسبَّبات بنفسها وإنما بخلق الله لها، وأن إضافة الأفعال إلى أسبابها صحيحة لغةً وشرعًا وعقلاً، وما كان لله تعالى على جهة الخلق والتأثير جاز إضافته للمتسبب فيه على جهة السببية، حيث إن الله تعالى قد نَسَبَ التَّوَفِّيَ إلى نفسه سبحانه فقال: (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) [الزمر: 42]، ونسبه إلى الملائكة فقال: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ) [الأنعام: 61]. وتؤكد جملة هذه المعانى على مدى الخلل لدى هؤلاء المتشددين فى تناول هذا المفهوم، وتكشف عن بطلان دعواهم أن التوسل بالأنبياء والأولياء والصالحين كفر أكبر، لأنهم لغلوهم فى سوء الظن بالمسلمين لم يدركوا أن هناك فارقًا كبيرًا بين “الوسيلة” وبين “الشرك”، فالوسيلة نُعَظِّم فيها ما عظَّمه الله، أى أنها تعظيم بالله، والتعظيم بالله تعظيم لله تعالى، أمـا “الشرك” فهو تعظيم مع الله أو تعظيم من دون الله؛ ولذلك كان سجود الملائكة لآدم عليه السلام إيمانًا وتوحيدًا، وكان سجود المشركين للأصنام كفرًا وشركًا مع كون المسجود له فى الحالتين مخلوقًا.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف