المصرى اليوم
عادل نعمان
عزيزى نيوتن: تاريخنا العربى منحول ومكذوب
عزيزى نيوتن: تاريخنا يكتبه المنتصرون الأقوياء، فإذا ما انهزموا وضعفوا ووهنوا نسخه المنتصر الجديد، تاريخنا العربى تقلب على الجانبين، الدين من جانب والسياسة من الآخر، أو طواهما الطاوى على جانب واحد، وهو الأكثر والغالب منذ العهد الأموى حتى التاريخ الوهابى الذى يحكمنا إما بسيفه أو بذهبه. ولن أتحدث عن نسخ وتزوير تاريخ الجاهليين، وهو امتداد لتاريخ المحدثين، ويمكن أن أحيل القارئ فى هذا إلى كتاب «فى الشعر الجاهلى» للدكتور طه حسين، فهو قنبلة فكرية، لكنى أبدأ من سيرة محمد بن إسحاق، بعد الهجرة بمائة وعشرين عاما، وهو المصدر الأول لكل كتب السيرة على إطلاقها، واللبنة الأولى للتاريخ الإسلامى ومرجعيته التاريخية، والغريب أن النساخ الذين نقلوا عنه لم ينتبهوا لما كتبه فى مقدمته (أن الله أعلم أى الروايات صحيحة) فلم يكن محمد بن إسحاق مهتما إلا بجمع الروايات والقصص دون التأكد من صحتها، ولقد أورد هذا صراحة، وما أدراك فيما رواه فى عهد الخليفة العباسى أبوجعفر المنصور عن مجد وسؤدد ورِفعة تاريخ العباسيين الهاشميين، وحرم من هذا المجد والسؤدد والرفعة تاريخ أولاد عمومتهم بنى أمية، وهذا ما كتبه ابن هشام فى تهذيب سيرة ابن إسحاق، حين ترك من رواياته الكثير، لم يذكر منها شيئا واستبعدها، شكاً وريبة فيها، فقد رأى فيها أشعارا (لم ير أحدا من أهل العلم بالشعر يعرفها، وأشياء بعضها يشنع الحديث به، وبعضها يسوء بعض الناس ذكره) ولم يصرح لنا ابن هشام عن مكنون صدره وقناعته، بأن محمد بن إسحاق كان فى حجر وبيت مال العباسيين. فما بالك إذا كانت بداية سيرتنا وتاريخنا ملفقة ومكذوبة وكان هذا هو أساس البناء، فماذا لو كانت الآن ناطحة سحاب. أما وعن ذات الحدث فى تاريخنا، فاقرأ ما دوّنه أهل الشيعة عنه وسجلوه، وما دوّنه أهل السنة عنه وسجلوه أيضا، فما صدق فريق منهما، وما قال أيهما الحق، بل كذبا كما يكذب كل المكذبين، فما سجله أهل السنة عن «خطبة الوداع» عكس ما سجله أهل الشيعة عن «حديث الغدير»، وما قاله الرسول عن «سنتى» غير ما قاله عن «عترتى»، وما نقله تاريخنا عن بيعة أبى بكر وعمر وعثمان، كانت شورى عند البعض، وسلبا للحكم عند الآخر، وما نقله المؤرخون عن مجزرة كربلاء، فكانت المذبحة بين قتيل مارق خارج عن الخليفة عند فصيل، وبين قاتل خارج عن الإمامة الواجبة نصا الملزمة ركنا عند فصيل آخر، ويتواصل النسخ والردح بين الفريقين ويشتد بينهما كما يشتد الصراع بين قوى الإيمان وقوى الكفر.

أما عن صلاح الدين الأيوبى سبب هذا المشروع بقانون، فهو صراع بين ما نقله أهل الشيعة عن سيرته، وما نقله أهل السنة عن سيرته، وما كتبه الرواة والقصاص من الفريقين، فتصارعا فى النسخ والتلفيق، تارة بين بطل وبطولة، وأخرى بين خائن وخيانة، وبين الخائن والبطل حملتهما الروايات والقصص على رف واحد ومعرض واحد، يتناوله القارئ منهما مصادفة، يكون صدقه ويقينه، لكنهما فى الأصل أكذوبتان، لا ترتقى أيهما إلى اليقين والتصديق. فما فعله صلاح الدين فى شيعة مصر وقتلهم وتشريدهم هو بطولة عند أهل السنة، فيتبارى القصاص فى تمجيده وتعظيمه، ويزكون عنده العفو عن أسرى الصليبين فى عيدهم، ويثنون على زيارته لقلب الأسد، فيدفعون برحمته تهمة قتل مليون شيعى كما قال أهل الشيعة، ولم يكن الأمر كله كذلك. وما فعله صلاح الدين فى شيعة مصر هو خيانة وظلم فى نظرهم، فيتبارى القصاص فى تحقيره والنيل منه، فقالوا عنه ديكتاتورا وغازيا ومحتلا، وترك مدنا عربية للصليبيين، وأول من سمح لليهود بدخول فلسطين والبقاء فيها، ولم يكن شاغله سوى إقامة حكم عضوض له ولأبنائه من بعده على نهج معاوية، وأحرق مكتبة دار الحكمة، كما انتهج عمر بن الخطاب وأحرق مكتبة الإسكندرية، ولم يكن الأمر كله كذلك، بل الحقيقة أن بعضا عند الطرفين قد حدث ووقع والآخر ليس كذلك. أهل السنة يكفيهم من صلاح الدين قضاؤه على الشيعة فى مصر وتحويل المذهب الإسماعيلى إلى المذاهب الأربعة وتدريسها فى الأزهر والأخذ بها، ويغفرون له ما فوق ذلك وما تحته، حتى لو قتل الشيعة جميعا وسلم أرض المسلمين لأعدائهم. وأهل الشيعة يكفيهم من صلاح الدين قتل شيعى واحد وليس مليونا، وطرد مذهبهم من الأزهر وحرق مكتبة دار الحكمة، حتى يكفّروه ولا يغفروا له ما تحت هذا وما فوقه، حتى لو انتصر على الصليبيين، وحرر القدس وكل بلاد المسلمين، فى كل هذا كذب الطرفان وضللا الأمة.

يا سيد نيوتن، تاريخنا العربى الحديث صعد درجة عن سيرة بن إسحاق، فأضيفت إليه وجهات النظر، وجهة نظر السياسيين، ورجال الدين ومذاهبه، وأيديولوجية الحكم، ومنافقو الحكام، وعلى رأسهم الكثير من رجال الإعلام، ولنرجع إلى تاريخنا الحديث منذ ثورة يوليو حتى الآن، كيف زوّروا التاريخ أمام أعيننا عن حقبة الملكية، وما يقوله التاريخ عكس. وكذلك يفعلون أمام أعيننا الآن، فمن كان بطلا يوما سحبوه إلى السجن فاسدا، ومن كان خليفة يوما سحبوه إلى السجن خائنا.

لا أدرى ماذا يخيفهم من مراجعة التاريخ، ومعرفة أسرار الأجداد، من أصاب منهم ومن أخطأ، ومن نال الناس من ظلمه، ومن نال من ظلم التاريخ والمزيفين، وكل يدلى بدلوه. ما كل هذا الرعب كلما هم أحدنا بالبحث فى تاريخ الأولين أو حتى الآخرين؟ وكأن فى الأمر شيئا مشينا، العالم كله يعيد كتابة تاريخه وتعديله دون خوف، حتى لو أصاب من كان يوما عظيما، أو أنصف من كان يوم ساقطا ومهانا، أليس من العدل أن يعود الحق لأصحابه؟!. ساعة نتهم بالزندقة، وأخرى بالكفر، وثالثة بالازدراء، وآخرها ازدراء الرموز التاريخية، فما عرفنا معنى الازدراء، وما علمنا من هم الرموز التاريخية. الكثير يعتبرون جحا، والحلاج، والجعد بن درهم، وابن المقفع، وابن رشد، وطه حسين، رموزا تاريخية، فما رأيهم؟
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف