الوطن
جمال طه
المعونة الأمريكية.. ومراجعات واجبة
«نيويورك تايمز» وصفت مصر بـ«الحليف السيئ».. رغم أن أمريكا هى «الحليف الأسوأ».. تخون الأمانة، وتطعن الصديق.. ما يفرض مراجعات استراتيجية، لا نتخلى فيها عن توازن علاقاتنا الخارجية، إلا بقدر انحيازنا لمصالحنا.. مقالنا قبل السابق اختتمناه بكيفية الاستغناء عن المعونة الأمريكية؟!.

أمريكا أقرت المعونة لإسرائيل ومصر إثر توقيع اتفاقات السلام نهاية السبعينات، حجمها وأهدافها يختلف، إسرائيل تتلقى 3.075 مليار دولار سنوياً، لطمأنتها لجدية الضمانات الأمريكية لأمنها، وهى ثابتة لا تُمس، مصر خُصص لها «2.1 مليار، 815 اقتصادية، والباقى عسكرية»، بهدف توفير أدوات ضغط تكفل توجيه سياساتنا بما يتفق والمصالح الأمريكية، أمريكا أدركت جدواها خلال حرب الخليج، لذلك لم تمس الدعم العسكرى إلا مؤخراً، ومع ارتفاع تكلفة الأسلحة والمعدات، لم يعد ما تبقى يكفى لتغطية تكلفة الصيانة والتحديث والتدريب وتنمية المهارات وتوفير بعض الذخائر، ولن يسمح بشراء أسلحة استراتيجية، أما الاقتصادية فقد أوشكت على إلغائها.

المعونة تستخدم كأداة ضغط؛ الكونجرس يهدد بقطعها عند كل خلاف؛ آخرها بعد محاكمة المتهمين فى قضية التمويل غير المشروع للمنظمات الأجنبية، وجمدها بعد الإطاحة بالإخوان، ولم يفرج عنها إلا مكرهاً «مارس 2015»، نتيجة فتح مصر مجالات جديدة لحركتها مع روسيا وفرنسا، التهديد تكرر عندما قبض على الشواذ السبعة الذين نظموا حفل مشروع ليلى لدعم حقوق الشواذ سبتمبر الماضى.. عضو الكونجرس «باتريك ليهى» طالب بربطها بسماح مصر للمنظمات الحقوقية الأمريكية وأعضاء السفارة الأمريكية والإعلام الدولى بحرية الحركة والمراقبة شمال سيناء!!.. ومسئولا ملف ما كان يطلق عليه صفقة القرن «كوشنر، جرينبلات»، الذى أسقطه التحرك المصرى فى الأمم المتحدة، وصلا القاهرة 21 أغسطس بعد ساعات من قرار التخفيض، فى توظيف سياسى، وممارسة استعمارية، لا علاقة لها بالتعاون الاستراتيجى.

الحديث عن تعاون استراتيجى مع أمريكا لم يعد له موضع، تجميد الدعم عقاباً لمصر بعد إسقاط الإخوان تم فى وجود حاكم ديمقراطى، وتخفيضه بـ300 مليون دولار تم بعد أربعة شهور فقط من زيارة السيسى لواشنطن أبريل 2017، فى وجود حاكم جمهورى، ما يؤكد اتفاق المؤسسات الحاكمة بشأنه.. بعد التخفيض خرجت تبريرات عدة، أولها الادعاء بوجود قصور فى حالة حقوق الإنسان، نتيجة للسيطرة الصارمة للقانون الجديد للجمعيات الأهلية على مصادر تمويلها، وتخويله سلطة المراقبة للدولة على أنشطتها.. وثانيها المخاوف المتعلقة بالتعاون بين مصر وكوريا الشمالية.. وثالثها الدور المصرى فى إحكام الحصار على قطر.. والحقيقة أنها مبررات واهية، فأين كان الحرص الأمريكى على حقوق الإنسان، وهى تستجوب الحالات المشتبه بها فى مصر إبان عصر مبارك؟!.. وهل نسى ترامب أنه من أطلق شرارة المواجهة مع قطر، خلال القمة الأمريكية الإسلامية بالرياض؟! أما التعاون المصرى الكورى فهو قائم، طوال العقود التى قدمت خلالها أمريكا المعونة.. كل ذلك يفرض العتاب.. السياسة تحكمها المصالح، ولكن لا تنعدم فيها القيم، مصر تربطها بكوريا الشمالية نحو 20 اتفاق تعاون تتنوع بين الاقتصاد والأمن والإعلام والتكنولوجيا والثقافة، بعضها تخللته مواقف يستحيل نسيانها؛ سرب من 30 طياراً كورياً شاركوا فى الدفاع عن الجبهة الداخلية خلال حرب أكتوبر 1973، والطيارون الإسرائيليون ادعوا اشتباكهم فى المعارك، معهد «ويسكونسن بروجيكت» كشف أن كوريا زودت مصر بالصواريخ الباليستية، ودعمتها بالدراسات الفنية والتصاميم والتكنولوجيا اللازمة لتوطين صناعتها.. القاهرة اعترضت سفينة كورية محملة بـ30.000 قذيفة صاروخية «PG-7» أغسطس 2016، وكررت إدانتها لتجاربها النووية، وكان يمكنها إعلان قطع العلاقات العسكرية معها مبررة الإجراء باحترام التزاماتها الدولية، وهو حق، أما أن يتم الإعلان من سيئول عاصمة كوريا الجنوبية، عدوتها الأولى، فإن ذلك يصيب الشعب الكورى الشمالى بمرارة النكران فحسب، بل قد يؤثر مستقبلاً على تعاون دول أخرى معنا.. فلماذا التزيد لإرضاء دولة براجماتية، لا تضع أى اعتبار للعواطف والشكليات؟

***

مع مراجعة أمريكا لسياستها الدفاعية بالمنطقة بداية حكم ترامب، أوفدت الجنرال جوزيف فوتيل قائد القيادة العسكرية المركزية للقاهرة أغسطس 2016، وفبراير 2017، لم يتلمس أى استعداد لدى مصر لقبول نشر قوات أمريكية بسيناء، ولا مشاركة قواتها فى أى عمليات مشتركة خارج حدودها، أمريكا لم تكتف بتخفيض المعونة، بل أوقفت بداية 2018، استخدام آلية التمويل الائتمانى التى تسمح لمصر بشراء المعدات والأسلحة التى تراها مناسبة لأولوياتها الدفاعية، وحددت أربع فئات لاستخدامات الأسلحة التى يمكن شراؤها؛ مكافحة الإرهاب وأمن الحدود وأمن سيناء والأمن البحرى.. هكذا فقد الدعم مبرراته وجدواه.

العملية الإرهابية فى الواحات «21 أكتوبر»، أسفرت عن استشهاد 16 شرطياً، وعشرات المصابين، تم القضاء على الخلية التى نفذتها بعد أسبوعين، كان فيها الجانب الأمريكى يُعَتِم، والجانبان الروسى والفرنسى يتعاونان، وكان الدعم اللوجيستى الروسى الأكثر عائداً، شويجو وزير الدفاع الروسى وصل القاهرة آخر نوفمبر، للاتفاق على الاستخدام المتبادل للمطارات العسكرية، ماتيس وزير الدفاع الأمريكى زار مصر فى اليوم التالى، وعاد بخفى حنين، قرار ترامب الخاص بالقدس «6 ديسمبر»، تهديدات ترامب والمندوبة الأمريكية فى الأمم المتحدة، لمصر وللدول الداعمة لمشروع القرار المصرى «18 ديسمبر»، فى اليوم التالى استُهدفت طائرة وزيرى الدفاع والداخلية بمطار العريش، وفُتح ملف «قانون دعم الأقباط بمصر» الذى قدّمته منظمة «كوبتك سولديراتى» للكونجرس، ثم وقع الحادث الإرهابى ضد كنيسة مارمينا بحلوان ليقدم مادة تدعم تمريره.. لو أدت هيئة الاستعلامات دورها بالربط بين وقائع استهداف المسيحيين بالكنائس، واستهداف المسلمين بمسجد الروضة، لفقد هذا الملف العفن مبررات فتحه.

الإدارة الأمريكية تُشرك إسرائيل فى مراجعة تخفيض المعونة المقدمة لمصر، وذلك يمثل لها إشكالية كبرى، موافقتها تقترن بالخشية من تأثيرها على استقرار السلام، ورفضها يرتبط بالمخاوف من تصاعد الثقل العسكرى لمصر، التى تبوأت المركز العاشر دولياً، وبعض الأنشطة التى تستقطب انشغالات الجيش والشرطة، ترتبط بتلك المخاوف.. فلتذهب المعونة للجحيم، بكل ما ترتبط به من علاقة باتفاقات السلام، خاصة أنها 0.002% من قيمة الناتج المحلى، و0.004% من الموازنة العامة، الاقتصاد الأمريكى لم يعد يحتمل توزيع الهبات والمنح، وإسرائيل تستشعر القلق من الانسحاب الأمريكى.. حرب 73 كانت تجربة مريرة، لا يسعى طرفاها لتكرارها، اتفاقيات السلام بملاحقها لم تعد قائمة، بسبب ما أدى إليه تطبيقها من فراغ عسكرى وأمنى أدى إلى انتشار الإرهاب، ينبغى البدء فوراً فى ترسيم الحدود، ووضع إطارات جديدة لسلام حقيقى، لا يرتبط بالمعونات، ولنشكر الله أن ذلك يتم ومصر تودع السبع العجاف.. ما يجنبنا ذوى اللحى، جامعى الملايين، بحجة تعويضها، ثم لا ندرى مصيرها.. أما آن الأوان للتحرر من قيود الدعم؟!.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف