الوطن
د. محمود خليل
سياسى بدرجة تاجر
هناك صنف من البشر يمارسون السياسة بمنطق التجار، أكثر هؤلاء يمتازون بوضوح الهدف، والقدرة على توظيف ما يتيسر فى أيديهم من وسائل من أجل تحقيقه، يجيدون المناورة والمداورة، ولا يجدون فى الحكم «أمَلة» كبيرة، إذا كان الابتعاد عن دائرته يصب فى اتجاه تحقيق أهدافهم الخاصة جداً. تستطيع أن تجد فى شخصية عبدالرحمن بن عوف مثلاً ونموذجاً واضحاً على هذا النوع من الشخصيات.

كان «ابن عوف» مهندس نقل السلطة إلى عثمان بن عفان بعد طعن عمر بن الخطاب، حين عهد الخليفة المحتضر بالأمر إلى ستة من بينهم عبدالرحمن بن عوف. ولم يرد أن يحدد اسماً بعينه حتى لا يتحمل أمر المسلمين حياً وميتاً، كما كان يردد، رغم أن «ابن الأثير» يحكى فى «الكامل» حكاية مناقضة لذلك يذكر فيها أن عمر بن الخطاب عرض الأمر فى البداية على عبدالرحمن بن عوف، لكن الأخير اختار دور المشرف على نقل السلطة، ووضع لذلك إجراءات صارمة، لكنها لم تمنع من الصراع بين الرؤوس المتساوية، حين تنافس كل من على بن طالب وعثمان بن عفان (رضى الله عنهما) على الصلاة عليه. وقد أخذ عبدالرحمن بن عوف فى مشورة كبار الصحابة من أهل الشورى وغيرهم من المسلمين لمدة ثلاثة أيام، وسأل فيها كل من يمكن أن يسأله، فى مدة ثلاثة أيام بلياليها. وكانت الخطوة التالية التى قام بها عبدالرحمن بن عوف أن تحرك إلى كل من على وعثمان، فقال لهما: إنى قد سألت الناس عنكما فلم أجد أحداً يعدل بكما أحداً، ثم أخذ العهد على كل منهما أيضاً لئن ولاه ليعدلن، ولئن وُلى عليه ليسمعن وليطيعن.

خرج «ابن عوف» بكل من على وعثمان إلى المسجد، ونودى فى الناس عامة: الصلاة جامعة، فامتلأ المسجد حتى غص بالناس، وتراص الناس حتى لم يبقَ لعثمان موضع يجلس فيه إلا فى أخريات الناس، ثم صعد عبدالرحمن بن عوف منبر رسول الله، ثم تكلم فقال: أيها الناس إنى سألتكم سراً وجهراً بأمانيكم فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين، إما على وإما عثمان، فقم إلىّ يا على، فقام إليه فوقف تحت المنبر فأخذ عبدالرحمن بيده، فقال: هل أنت مبايعى على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبى بكر وعمر؟ قال: اللهم لا ولكن على جهدى من ذلك وطاقتى، قال فأرسل يده، وقال إلىّ يا عثمان، فأخذه بيده فقال: هل أنت مبايعى على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبى بكر وعمر، قال: اللهم نعم، قال فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده فى يد عثمان، فقال: «اللهم اسمع واشهد.. اللهم اسمع واشهد.. اللهم اسمع واشهد.. اللهم إنى قد خلعت ما فى رقبتى من ذلك فى رقبة عثمان».

سلم «ابن عوف» الحكم إلى عثمان، ثم وقعت أحداث الفتنة الكبرى التى أدت إلى اغتيال عثمان، ومن بعده اغتيال على بن أبى طالب، فى وقت حافظ فيه عبدالرحمن بن عوف على مكانته البارزة سياسياً واقتصادياً، بقية سنِى عمره التى قضاها فى عهد عثمان. ومؤكد أنه كان يعلم أن مكانته تلك سوف تهتز كثيراً لو ولاها علياً، وخصوصاً المستوى الاقتصادى، لذلك فقد طرح على فرسى الرهان سؤالاً يعلم إجابة كل منهما عليه، فأبى «على» المعتز بعقله ورأيه الامتثال لعهد «ابن عوف» فيما يتعلق بتقليد الشيخين أبى بكر وعمر، فى حين التقط عثمان الرسالة بعقلية التاجر الشاطر ووافق.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف