الأخبار
نبيل زكى
مواقف وطنية للكنيسة
أهم ما يميز الكنيسة القبطية المصرية هو تاريخها الوطني الذي يجهله المتطرفون والإرهابيون. فقد ظلت هذه الكنيسة الشعبية، التي لم تنشأ بقرار من حاكم أو سلطان، في الوعي الشعبي مرادفاً لمصر منذ جاءت المسيحية إلي هذا البلد في القرن الأول الميلادي علي يد القديس مرقس، لتكون مدرسة في حب الوطن ينتظم فيها المصريون علي مدي عشرين قرناً. رفضت هذه الكنيسة أي تبعية لجهة دينية أو مدنية في الخارج وتصدت لعاصمتين إمبراطوريتين هما روما وبيزنطة، لتصبح رمزاً للاستقلال الوطني. رفض البطريرك بنيامين الوصاية الرومانية وهرب من بطش جنود روما طوال ١٣ سنة حتي جاء عمرو بن العاص في عام ٦٤٠م، وقام بتكريمه وتوفير الأمان له، وطلب منه تدبير أحوال جميع كنائسه ورجاله وسياسة طائفته، ووصفه بأنه من أتباع الله الذين لم يشهد أمثاله من قبل. ولا يزال علي جدران الكنيسة المعلقة بالقاهرة عهد قدمه عمرو بن العاص لحماية الكنيسة يلعن فيه كل من يحاول تدميرها أو هدمها أو الاعتداء علي جزء من أجزائها. وكان بنيامين قد أعلن، مع وصول جيش الفتح الإسلامي، زوال دولة الرومان ودعا مواطنيه لاستقبال عمرو بن العاص.
ورفض أقباط مصر مساعدة الصليبيين ووقفوا إلي جانب صلاح الدين.
وعندما انتشرت شائعة أيام محمد علي بأن البابا طلب منه إعفاء الأقباط من الخدمة العسكرية، أصدر البابا بياناً جاء فيه »حاشا لله أن أكون جباناً.. فأفتري علي أبنائنا بتجردهم من الميل لخدمة بلادهم حق الخدمة..»‬.
وفي عهد محمد علي أيضا، رفض البطريرك بطرس الجاولي طلب روسيا وضع »‬الأقليات» في مصر تحت حماية قيصر روسيا، ووجه سؤالا إلي الأمير الروسي، المبعوث من القيصر: »‬هل سيعيش قيصركم إلي الأبد»؟ وأجاب الأمير »‬لا يا سيدي، إنه سيموت كسائر البشر»، فقال البطريرك: »‬إذن.. أنتم تعيشون تحت رعاية ملك يموت.. أما نحن، فإننا نعيش تحت حماية ملك لا ولن يموت إلي الأبد».
ولم تفلح الإرساليات الإيطالية والإنجليزية والأمريكية في التوغل في صفوف الكنيسة القبطية. وعندما شعر البطريرك يوأنس الثامن عشر بأن الدول الأوروبية تستخدم الإرساليات التبشيرية لغزو أفريقيا وآسيا وخلق »‬أقليات» تمهد لوصول بضائعها وجيوشها.. قرر السفر إلي أسيوط وهناك أغلق مدارس التبشير والإرساليات الأجنبية. وقرر أن كل من يرسل أولاده إلي مدارس الإرساليات سيكون مصيره هو الحرمان من الكنيسة.
وقد فشل باباوات روما في كل محاولاتهم لإخضاع الكنيسة القبطية المصرية وتجريدها من استقلالها وإجبارها علي الاعتراف برئاستهم و»‬رعايتهم المذهبية» وسيادة كرسي روما علي الكنيسة المصرية.
كذلك قام المندوب السامي البريطاني بمطالبة البطريرك كيرلس الخامس بأن تكون »‬الأقليات» في مصر تحت حماية التاج البريطاني. ورفض البطريرك. واعترف اللورد كرومر، المندوب السامي البريطاني وممثل دولة الاحتلال، بأنه لم يجد أي فارق بين المصريين، والفرق الوحيد أن المصري القبطي يعبد الله في كنيسته والمصري المسلم يعبد الله في مسجده.
وعندما أعلن الخليفة العثماني أن أحمد عرابي، زعيم الثورة العرابية، خرج علي الطاعة السلطانية، وقف البابا كيرلس الخامس إلي جانب ثورة عرابي، كما ساند بقوة ثورة ١٩١٩ وطالب الأقباط بالمشاركة فيها، وأمر بفتح الكنائس للشيوخ لإلقاء خطبهم من علي منابرها وذهاب الكهنة لإلقاء الخطب في الأزهر الشريف. وأعلن القمص سرجيوس، خطيب الثورة، أنه إذا كان الإنجليز يتذرعون للبقاء في مصر بحماية الأقباط.. فليمت الأقباط وتعيش مصر حرة مستقلة. وكان البابا صديقاً مقرباً من الزعيم سعد زغلول.
واستحق البابا شنودة الثالث لقب »‬بابا العرب» بعد أن رفض زيارة القدس إلا ويده في يد شيخ الأزهر، الأمر الذي أثار غضب الرئيس أنور السادات بعد توقيعه اتفاقية كامب ديفيد. كما رفض البابا السماح للأقباط بزيارة القدس إلا بعد أن تتحرر المدينة من الاحتلال. وقد دفع البابا ثمناً باهظاً بسبب موقفه »‬تحديد إقامته وسحب التصديق علي تعيينه»، وكان البابا شنودة أول بطريرك مسيحي في العالم يدحض مزاعم إسرائيل بأن اليهود »‬شعب الله المختار».
هذه الأمة ابتدعت مفهوم »‬الوطن» الذي ينتمي إليه كل أبنائها ويدينون له بالولاء.


تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف